للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تكبيرات، ثم انصرف، فقال: يا أيها الناس إني لم أقرأ عليها -أي جهرًا- إلا لتعلموا أنها سنة". قال الحاكم: شُرحبيل لم يحتجّ به الشيخان، وانما أخرجته لأنه مفسّر للطرق المتقدّمة. قال الحافظ: وشرحبيل مختلف في توثيقه.

واستدلّ الطحاويّ على ترك القراءة في الأولى بتركها في باقي التكبيرات، وبترك التشهّد، قال: ولعلّ قراءة من قرأ الفاتحة من الصحابة كان على وجه الدعاء، لا على وجه التلاوة، وقوله: "إنها سنّة" يحتمل أن يريد أن الدعاء سنّة انتهى. قال الحافظ: ولا يخفى ما يجيء على كلامه من التعقّب، وما يتضمّنه استدلاله من التعسّف. انتهى (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الطحاويّ تعصّب محض للمذهب الحنفيّ، ولا يستغرب منه ذلك، فإنه معروف بهذا، وإنما الغريب قول السنديّ في "شرحه": هذه الصيغةُ عندهم حكمها الرفع، لكن في إفادته الافتراض بحثٌ، نعم ينبغي أن تكون الفاتحة أولى، وأحسن من غيرها، من الأدعية، ولا وجه للمنع عنها، وعلى هذا كثيرٌ ممن محققي علمائنا، إلا أنهم قالوا: يقرأ بنية الدعاء والثناء، لا بنيّة القراءة انتهى (٢).

فهذا الكلام من السنديّ غريبٌ، لكونه على خلاف عادته، فإنه من المعتدلين الذين لا يتعصّبون لمذهبهم، بل كثيرًا ما يعترض عليهم، ويردّ قولهم، لكن هنا يظهر عليه الميل لرأيهم، فإنه لم يشر إلى الردّ عليهم، كعادته.

وأما الذين سماهم محققي علمائهم، فليسوا بمحققين، لأنهم لو كانوا محققين لما خالفوا الأدلّة الصريحة في إيجاب القراء، ولما قالوا: يقرؤها بنيّة الدعاء والثناء، لا بنية أفها قرآن، فإن هذا مخالفة صريحة لحديث ابن عباس - رضي اللَّه عنهما -، حيث سئل أتقرأ؟ فقال: إنها حقّ وسنّة، ولحديث أبي أمامة: "السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن". وقد ثبت أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - سماها صلاة في غير ما حديث، ومعلوم لدى كلّ أحد أنه قال: "لا صلاة إلا بأمّ القرآن".

وبالجملة فالتقليد المحض يُعمِي، ويُصمّ، فلا يرى المقلّد المتعصّب الحقَّ، ولا يسمعه، إلا إذا وافق رأي إمامه، اللَّهمّ أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، بمنّك، وكرمك آمين.

وسيأتي مزيد بسط للردّ عليهم في المسأدة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.


(١) - "فتح" ج ٣ ص ٥٦٤ - ٥٦٥.
(٢) - "شرح السنديّ" ج ٣ ص ٧٥.