للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

المتقدّم، لكن اختلف العلماء، هل هذا النسخ عامّ للرجال وللنساء، أم هو خاصّ للرجال، دون النساء، والأول أظهر. وقد دلّ على صحة ذلك أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - قد رأى امرأة تبكي عند قبر، فلم يُنكر عليها الزيارة، وإنما أنكر عليها البكاء.

وقال أيضًا عند قوله: "فإنها تذكّر الموت": ما نصّه: وتَذَكُّر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء، على أن أصحّ ما في نهي النساء عن زيارة القبور ما خرّجه الترمذيّ، عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - "لعن زَوَّارات القبور"، صححه الترمذيّ على أن في إسناده عُمَر بن أبي سلمة، وهو ضعيف عندهم. ثم إن هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة، لأن زوّارات للمبالغة، ويمكن أن يقال: إن النساء إنما يُمنعن من إكثار الزيارة؛ لما يؤدي إليه الإكثار من تضييع حقوق الزوج، والتبرّج، والشهرة، والتشبّه بمن يلازم القبور لتعظيمها، ولِمَا يُخاف عليها من الصُّرَاخ، وغير ذلك من المفاسد، وعلى هذا يُفرّق بين الزائرات، والزّوّارت، والصحيح نسخ المنع عن الرجال والنساء، كما تقدّم، واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، هو الحقّ؛ لقوة دليله، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

وقال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "الفتح": قال النوويّ تبعًا للعبدريّ، والحازميّ، وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة، كذا أطلقوا، وفيه نظر، لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين، وإبراهيم النخعيّ، والشعبيّ الكراهة مطلقًا، حتى قال الشعبيّ: لولا نهي النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - لزرت قبر ابنتي. فلعلّ من أطلق أراد بالاتفاق ما استقرّ عليه الأمر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ، واللَّه أعلم.

ومقابل هذا قول ابن حزم: إن زيارة القبور واجبة، ولو مرّة واحدة في العمر، لورود الأمر به.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم أن الصواب كون الأمر للاستحباب؛ لصحة قوله - صلى اللَّه عليه وسلم - في رواية المصنّف: "فمن أراد أن يزور فليزر"، ولعلّ ابن حزم لم يستحضر هذه الرواية حينما قال بالوجوب، واللَّه تعالى أعلم.

قال: واختُلف في النساء، فقيل: دخلن في عموم الإذن، وهو قول الأكثر، ومحلّه ما إذا أُمِنت الفتنة، ويؤيد الجواز حديث الباب -يعني حديث أنس - رضي اللَّه عنه - الذي أورده البخاريّ مستدلاًّ على مشروعية زيارة القبور، فقال في "صحيحه":


(١) - "المفهم" ج٢ ص ٦٣٢ - ٦٣٣.