بعض طرقه عند الطبرانيّ (١)، فأخرج من طريق سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "أرواح الشهداء في طير خضر، تعلق حيث شاءت". انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأولى أن تحمل رواية مالك هذه على أرواح جميع المؤمنين غير الشهداء، ورواية سفيان بن عيينة على أرواح الشهداء، فرواية سفيان، غير رواية مالك، بل هي رواية مستقلّة حدث فيها كعب بن مالك - رضي اللَّه عنه -، عن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - عن أرواح الشهداء، كما ثبت في حديث ابن عباس، وأبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه عنهم - في أرواح الشهداء، كما سيأتي، ولا غرابة في أن يحدث صحابيّ واحد حديثين مختلفين، سمعهما من النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، والدليل على ذلك اختلاف ألفاظهما، فلفظ حديث مالك:"إنما
نسمة المؤمن طائر، يعدق في الجنّة حتى يبعثه اللَّه إلى جسده يوم القيامة"، ودفظ ابن
عيينة:"إن أرواح الشهداء في طير خضر، تعلق من ثمر الجنة".
والحاصل أن الحديثين صحيحان، أحدهما بَيَّنَ كون روح المؤمن طيرًا تعلق في الجنة، والآخر بَيَّنَ أن أرواح الشهداء تكون في جوف طير خضر تعلق في الجنة، وتأوي إلى قناديل معلّقة بالعرش، فهم متيمِّزون عن سائر المؤمنين. وسيأتي تمام هذا البحث في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.
(طَائِرٌ) ظاهر أن الروح يتشكّل، ويتمثل بأمر اللَّه تعالى طائرًا، كتمثل الملك بشرًا.
وقيل: يحتمل أن المراد أن الروح يدخل في بدن طائر، كما في روايات أخرى، وقد عرفت أن هذا في الشهداء، فالأول هو الصواب.
قال السيوطيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "حاشية سنن أبي داود": إذا فسّرنا الحديث بأن الروح تتشكّل طيرًا، فالأشبه أن ذلك في القدرة على الطيران فقط، لا في صورة الخلقة، لأن شكل الإنسان أفضل الأشكال.
قال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: هذا إذا كان الروح الإنسانيّ له شكل في نفسه، ويكون على شكل الإنسان، وأما إذا كان في نفسه لا شكل له، بل يكون مجرّدًا، وأراد اللَّه تعالى أن يتشكّل ذلك المجرّد؛ لحكمة مّا، فلا يبعد أن يتشكّل أوّل الأمر على شكل الطائر، وأما على الثاني، فقد أورد عليه الشيخ علم الدين العراقيّ أنه لا يخلو، إما أن يحصل للطير الحياة بتلك الأرواح، أوّلا، والأول عين ما تقوله التناسخيّة،
(١) - هذا الحديث أخرجه الترمذيّ في "جامعه" عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار .... ج ٤ ص ١٧٦ رقم الحديث ١٦٤١ - ولفظه: "إن أرواح الشهداء في طير خضر، تعلق من ثمر الجنة، أو شجر الجنّة". فكان الأولى للسيوطيّ أن يعزوه إليه.