للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان" (١).

قال: وأما ما علّق فيه الجزاء بالإيمان، فإنه يتناول كلّ مؤمن، شهيدًا كان، أو غير شهيد. وأما النصوص، والآثار التي ذُكرت في رزق الشهداء، وكون أرواحهم في الجنّة، فكلّها حقّ، وهي لا تدلّ على انتفاء دخول أرواح المؤمنين الجنّة، ولا سيّما للصدّيقين الذين هم أفضل من الشهداء، بلا نزاع بين الناس، فيقال لهؤلاء: ما تقولون، أرواح الصدّيقين، هل هي في الجنّة، أم لا؟، فإن قالوا: إنها في الجنة -لا يسوغ لهم غير هذا القول- فثبت أن هذه النصوص لا تدلّ على اختصاص أرواح الشهداء بذلك، وإن قالوا: ليست في الجنّة، لزمهم من ذلك أن تكون أرواح سادات الصحابة، كأبي بكر الصديق، وأبي بن كعب، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبي الدرداء، وحذيفة بن اليمان، وأشباههم - رضي اللَّه عنهم - ليست في الجنة، وأرواح شهداء زماننا في الجنّة، وهذا معلوم البطلان؛ ضرورة.

فإن قيل: فإذا كان هذا الحكم لا يختصّ بالشهداء، فما الموجب لتخصيصهم بالذكر في هذه النصوص؟.

قلت: التنبيه على فضل الشهادة، وعلوّ درجتها، وأن هذا مضمون لأهلها، ولا بدّ، وأن لهم منه أوفر نصيب، فنصيبهم من هذا النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم، من الأموات على فراشهم، وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة منهم، فله نعيم يختصّ به، لا يشاركه فيه من هو دونه. ويدلّ على هذا أن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- جعل أرواح الشهداء، في أجواف طير خُضْر، فإنهم لما بذلوا أنفسهم للَّه، حتى أتلفها أعداؤه فيه، أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرًا منها تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من نعيم الأرواح المجرّدة عنها، ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير، أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمّل لفظ الحديثين، فإنه قال: "نسمة المؤمن طير"، فهذا يعمّ الشهيد وغيره، ثم خصّ الشهيد بأن قال: "هي في جوف طير"، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فصلوات اللَّه، وسلامه على من يصدّق كلامه بعضه بعضًا، ويدلّ على أنه حقّ، من عند اللَّه.

وهذا الجمع أحسن من جمع أبي عمر، وترجيحه رواية من روى "أرواحهم كطير خضر"، بل الروايتان حقّ، وصواب، فهي كطير خضر، وفي أجواف طير خضر انتهى كلام العلامة ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- (٢).


(١) - أخرجه أحمد رقم ١٧٣٢٩.
(٢) - "كتاب الروح" ص ١٥٢ - ١٥٧.