(المذهب الثاني): مذهب من قال: إن معنى قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "فاقدروا له: ضيّقوا له، وقَدِّرُوه تحت السحاب، ومن قال بهذا أوجب الصيام من الغد ليلة الثلاثين من شعبان إن كان في محلّ الهلال ما يمنع رؤيته، من غيم وغيره.
وهذا مذهب ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - راوي هذا الحديث، ففي "سنن أبي داود": فكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعًا وعشرين نُظِرَ له، فإن رأى فذاك، وإن لم ير، ولم يَحُلْ دونه منظره سحاب، أو قَتَرَة، أصبح مفطرّا، وإن حال دون منظره سحاب، أو قترة أصبح صائمًا، قال: وكان ابن عمر - رضي اللَّه عنهم - يفطر مع الناس، ولا يأخذ بهذا الحساب.
قال الخطابيّ: يريد أنه كان يفعل هذا الصنيع في شهر شعبان احتياطًا للصوم، ولا يأخذ بهذا الحساب في شهر رمضان، ولا يفطر إلا مع الناس.
قال وليّ الدين: وكأن الراوي أشار بذلك إلى النقض على ابن عمر في كونه قال بما يقتضي حمل التقديرين على التضييق، وتقديره تحت السحاب في إحدى الصورتين، دون الأخرى، ولو اختلف حكمهما لبيّنه النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، وفصل بينهما، وقد نبّه النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - على التسوية بينهما بنهيه عن صوم يوم الشكّ. وقد تبع ابنَ عمر على هذا المذهب أحمدُ بن حنبل في المشهور عنه.
قال ابن الجوزيّ -رحمه اللَّه تعالى- في تصنيف له سمّاه "دَرْء اللَّوْم والضَّيْم في صوم يوم الغيم": وهذا مرويّ من الصحابة، عن عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، والحكم بن أيوب الغفاريّ، وعائشة، وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق - رضي اللَّه عنهم -. قال: وقال به من كبراء التابعين سالم بن عبد اللَّه، ومجاهد، وطاوس، وأبو عثمان النّهْديّ، ومطرّف بن عبد اللَّه بن الشِّخِّير، وميمون بن مهران، وبكر بن عبد اللَّه المزنيّ، في آخرين.
حكاه عنه الحافظ العراقي -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ"، وردّ عليه في حكايته عن هؤلاء الصحابة، فذكر أن الرواية في ذلك عن عمر منقطعة، فإنها من رواية مكحول عنه، ولم يدركه، وأن ابن الجوزيّ إنما نقل ذلك عن عليّ؛ لأنه قال: "أصوم يومًا من شعبان أحبّ إليّ من أفطر يوما من رمضان". قال العراقيّ: وهو منقطع، ثم إنه إنما قاله عند شهادة واحد على رؤية الهلال، لا في الغيم، كما رواه الدارقطنيّ في "سننه" مبيّنًا، ولا يحلّ الاختصار على هذا الوجه؛ لأنه يُخلّ بالمعنى. قال: والمعروف عن عمر، وعليّ خلاف ذلك ففي "مصنّف ابن أبي شيبة" عن كلّ منهما أنه كان يخطب إذا حضر رمضان، فيقول: "ألا لا تقدّموا الشهر، إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتم الهلال، فأفطروا، فان غمّ عليكم، فأتمّوا العدّة".