يقول له: أو مدّين من قَمْح. وقد أشار أبو داود إلى رواية ابن إسحاق هذه، وقال: إن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ. وذكر أن معاوية بن هشام رَوَى في هذا الحديث عن سفيان:"نصف صاع من برّ" وهو وَهَمٌ، وأن ابن عيينة حدّث به عن ابن عجلان، عن عياض، فزاد فيه:"أو صاعًا من دقيق"، وأنهم أنكروا عليه، فتركه. قال أبو داود: وذِكْرُ الدقيق وَهَمٌ من ابن عيينة. وأخرج ابن خزيمة أيضًا من طريق فُضيل بن غَزْوَان، عن نافع، عن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -، قال:"لم تكن الصدقة على عهد رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - إلا التمر، والزبيب، والشعير، ولم تكن الحنطة". ولمسلم من وجه آخر، عن عياض، عن أبي سعيد:"كنّا نخرج من ثلاثة أصناف: صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعير". وكأنه سكت عن الزبيب في هذه الرواية لقلّته بالنسبة إلى الثلاثة المذكورة.
وهذه الطرق كلّها تدلّ على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيحتمل أن تكون الذُّرَةَ، فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن، وهي قوت غالبٌ لهم.
وقد روى الجوزقيّ من طريق ابن عجلان، عن عياض في حديث أبي سعيد:"صاعًا من تمر، صاعًا من سُلْت، أو ذُرَة" انتهى كلام الحافظ (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "فيحتمل أن تكون الذرة الخ" فيه نظر، بل الصواب أن الطعام مجملٌ، فسره ما بعده، كما سبق. واللَّه تعالى أعلم.
وأجاب البرماويّ عن رواية حفص بن ميسرة بأن الطعام فيها محمول على معناه اللغويّ الشامل لكلّ مطعوم، قال: فلا ينافي تخصيص الطعام فيما سبق بالبرّ؛ لأنه قد عطف عليه الشعير، وغيره، فدلّ على التغاير، وهذا كالوعد، فإنه عامّ في الخير والشرّ، وإذا عطف عليه الوعيد خُصّ بالخير، وليس هو من عطف الخاصّ على العامّ، نحو {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}، {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ}، فإن ذلك إنما هو فيما إذا كان الخاصّ أشرف، وهنا بالعكس.
وقال الكرمانيّ: فإن قلت: قوله: قال أبو سعيد: "وكان طعامنا الخ" مناف لما تقدّم من قولك: ذإن الطعام هو الحنطة. ثمّ أجاب بقوله: لا نزاع في أنّ الطعام بحسب اللغة عامّ لكلّ مطعوم، إنما البحث فيما يعطف عليه الشعير، وسائر الأطعمة، فإن العطف قرينة لإرادة المعنى العرفيّ منه، وهو البرّ بخصوصه انتهى.
قال صاحب "المرعاة": ولا يخفى ما فيه من التكلّف. والظاهر عندي هو قول من قال: إن الطعام في قوله: "صاعًا من طعام" مجملٌ، وما ذُكر بعده بيان له، كما يدلّ