للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(فَاجْتَاحَتْ) أي استأصلت، وأتلفت (مَالَهُ) من ثمار بستانه، أو غيرها من الأموال (فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَهَا) أي حتى يصيب بدل ماله المجتاح، وأنّث ضميره لتأويله بالحاجة. واللَّه تعالى أعلم (ثُمَّ يُمْسِكَ) أي يترك السؤال؛ لأنه إنما حلّ له لأجل ما حلّ به من الجائحة، فلما أصاب حاجته ارتفعت الإباحة، فيجب أن يمسك عنه (وَرَجُلٍ) يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة، كسابقيه (أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ) اسم من افتاق يفتاق: إذا احتاج. أي رجلٌ كان غنيًّا موسرًا، ثم افتقر، وأصابته حاجة، ولم يُعرَف حاله (حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاَثةٌ مِنْ ذوِي الْحِجَا) -بكسر الحاء المهملة، وفتح الجيم، بعدها ألف مقصورة-: أي العقل والفِطْنة. قال القرطبيّ: واشترط الحجا؛ لأن من عَدِمه لا يحصل بقوله ثقة، ولا يصلح للشهادة، أو لعله عبّر به عما يُشرط في المخبر والشاهد من الأمور التي توجب الثقة بأقوالهم، ويكون الموصوف بها عَدْلًا مرضيًّا انتهى (١).

(مِنْ قَوْمِهِ) إنما قيدهم بقومه؛ لأنهم أعلم بدَخِيلة أمره، واستظهر بالثالث ليُلحق بالمنتشر، ولم يحتج فيمن أصابته الجائحة إلى مثل هذا؛ لظهور أمر الجائحة، وأما أمر الفاقة، فقد تخفى. قاله القرطبيّ (٢).

وقال النوويّ: وإنما قال - صلى اللَّه عليه وسلم -: "من قومه؛ لأنهم من أهل الخبرة بباطنه، والمال مما يُخفَى في العادة، فلا يعلمه إلا من كان خبيرًا بصاحبه. وإنما اشترط الحجا تنبيهًا على أنه يشترط في الشاهد التيقّظ، فلا تُقبل من مغفّل. وأما اشتراط الثلاثة، فقال بعض أصحابنا: هو شرط في بينة الإعسار، فلا يُقبل إلا من ثلاثة؛ لظاهر هذا الحديث. وقال الجمهور: يقبل من عدلين، كسائر الشهادة، غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب. وهذا محمول على من عُرِف له مالٌ، فلا يُقبل قوله في تلفه، والإعسار إلا ببينة، وأما من لم يُعرف له مالٌ، فالقول قوله في عدم المال انتهى كلام النوويّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يؤيّد هذا قوله في الحديث: "اجتاحت ماله"، فإنه يدلّ على أن الذي يشهد له الثلاثة هو الذي كان له مالٌ، فاجتاحته آفة، فاحتاج للمسألة. واللَّه تعالى أعلم.

وقال السنديّ: وهذا كنايةٌ عن كون تلك الفاقة محقّقةً، لا مُخَيلةً، حتى لو استُشهِد عقلاء قومه بتلك الفاقة لشهدوا بها. والفرق بين هذا القسم، والقسم السابق، أن الفاقة في القسم الأول ظاهرة بين غالب الناس، وفي هذا القسم خفيّةٌ عنهم انتهى.

(قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ) أي يشهدوا قائلين: قد أصابت الخ. ولفظ مسلم: "حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا، لقد أصابت فلانًا فاقةٌ". قال النوويّ: هكذا في جميع النسخ -أي


(١) - "المفهم" ج ٣ ص ٨٨.
(٢) - "المفهم" ج ٣ ص ٨٨.