(المسألة السابعة): أشار في رواية مسلم إلى العلّة في تفضيل الاكتساب على السؤال، وهي أن العيد العليا أفضل من اليد السفلى، والمكتسب يده عليا، إن تصدّق، وكذا إن لم يتصدّق، وفسّرنا العليا بالمتعفّفه عن السؤال، فقد يُستدل بهذا على ترجيح الرواية التي فيها "اليد العليا هي المتعفّفه"؛ لأنه لا يلزم من الاكتساب الصدقةُ، لكن تبيّن برواية مسلم أن تفضيل الاكتساب هو للصدقة والاستغناء عن الناس، وكما أنه لا يلزم من الاكتساب الصدقة، لا يلزم من الاكتساب التعفّف عن السؤال، فربّ مكتسب مكتفِ، يسأل تكثّرًا. قاله وليّ الدين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): ذكر الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ" أن المسألة تنقسم إلى الأحكام الشرعيّة: التحريم، والكراهة، والوجوب، والندب، والإباحة. وقال أبو بكر ابن العربيّ: وبالجملة فإن السؤال واجبٌ في موضع، جائزٌ في آخر، حرامٌ في آخر، مندوب على طريق، فأما وجوبه، فللمريدين في ابتداء الأمر، وظاهر حالهم، وللأولياء للاقتداء، وجريًا على عادة اللَّه في خلقه، ألا ترى إلى سؤال موسى والخضر لأهل القرية طعامًا، وهما من اللَّه تعالى بالمنزلة المعلومة، فالتعريف بالحاجة فرض على المحتاج، وإذا ارتفعت الضرورة جاز أن يسأل في الزائد عليها، مهما يحتاج إليه، ولا يقدر عليه، ثم أنشد لبعضهم:
قال: وإذا كملت للمرء مفاقره، وارتفعت حاجاته، لم يجز له أن يسأل تكثّرًا. ثم قال: وقد يكون السؤال واجبًا، أو مندوبًا، أما وجوبه، فللمحتاج، وأما المندوب فلمن يُعينه، وُيبيّن حاجته، إن استحيى هو من ذلك، أو رجا أن يكون بيانه أنفع، وأنجح من بيان حال السائل، كما كان النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - يسأل لغيره انتهى.
قال الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فذكر أربعة أوجه من الأحكام الشرعيّة في المسألة، دون الخامس، وهو قسم المكروه، فأما تمثيله للواجب بسؤال المحتاج فواضحٌ، وأما قسم المكروه، فسؤاله للسلطان مع إمكان الاستغناء عنه، وقد جمعهما النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - في حديث سمرة - رضي اللَّه تعالى عنه - بقوله:"إلا أن يسأل الرجل سلطانًا، أو في أمر لا بدّ منه"، فهذا الأخير هو السؤال الواجب، قال: وأما تمثيل القاضي أبي بكر
(١) - المفاقر: جمع فقر على غير قياس، أو جمع مُفْقِر مصدر أفقره. قاله في "اللسان".