المسائل، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة، فيصير مهاجرًا، فيمتنع عليه السؤال. وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب، وفودًا كانوا، أو غيرهم.
وأخرج أحمد عن أبي أُمامة - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: لَمّا نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية. كنّا قد اتقينا أن نسأله - صلى اللَّه عليه وسلم -، فأتينا أعرابيًّا، فرشوناه بُردًا، وقلنا: سل النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -. ولأبي يعلى عن البراء:"إن كان ليأتي عليّ السَّنَةُ أريد أن أسأل رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - عن الشيء، فأتهيّب، وإن كنّا لنتمنّى الأعراب -أي قدومهم؛ ليسألوا، فيسمعوا هم أجوبة سؤالات الأعراب، فيستفيدوها-.
وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة، فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية. ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرّر حكمه، أو مالهم بمعرفته حاجةٌ راهنةٌ، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء، إذا أَمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كسؤالهم عن الكلالة، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، وغير ذلك، لكن الذين تعلّقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سببًا للتكليف بما يشقّ، فحقّها أن تُجتنب.
وقد عقد الإمام الدارميّ -رحمه اللَّه تعالى- في أوائل "مسنده" لذلك بابًا، وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارًا كثيرةً في ذلك، منها:
عن ابن عمر: "لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن". وعن عمر: "أحرّج عليكم أن تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلًا".
وعن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا، فإن قيل: لا، قال: دعوه حتى يكون. وعن أُبي بن كعب، وعن عمّار كذلك. وأخرج أبو داود في "المراسيل" من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، مرفوعًا. ومن طريق طاوس، عن معاذ، رفعه: "لا تعجلوا بالبليّة قبل نزولها، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سُدّد، أو وفّق، وإن عجلتم تشتّت بكم السبل". وهما مرسلان، يقوّي بعضٌ بعضًا. ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد، مرفوعًا: "لا يزال في أمتي من إذا سُئل سُدّد، وأُرشد، حتى يتساءلوا عما لم ينزل" … الحديث نحوه.
قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نصّ على قسمين:
(أحدهما): أن يُبحث عن دخوله في دلالة النصّ على اختلاف وجوهها، فهذا