قال الحافظ: قد اتفق علماء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ومنشأ هذا الخلاف: اختلاف الروايات عن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - في مبدإ إهلال النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -:
(فمنها): ما يدلّ على أنه أهلّ في دبر الصلاة في مسجد ذي الحليفة، كما في رواية ابن عبّاس، عند أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، والبيهقيّ، وفي رواية أبي داود المازنيّ، عند ابن حزم -٧/ ٩٣ - (١).
(ومنها): ما يدلّ على أنه أهلّ حين استوت به ناقته قائمة، خارج مسجد ذي الحليفة عند الشجرة، كما وقع في روايات ابن عمر، عند أحمد، والشيخين، وغيرهم. وفي حديث أنس عند البخاريّ، وأبي داود، والبيهقيّ، والطحاويّ. وقال الزيلعيّ بعد ذكر حديث أنس: وأخرج أي البخاريّ أيضًا عن عطاء، عن جابر، أن إهلال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - من ذي الحليفة حين استوت به راحلته انتهى.
وقال المجد في "المنتقى" بعد ذكر حديث جابر: رواه البخاريّ، وقال: رواه أنس، وابن عباس انتهى.
(ومنها): ما يدلّ على أنه أهلّ حين استوت به على البيداء، أي بعد ما علا على شرف البيداء، كما وقع في روايات ابن عباس أيضًا عند أحمد، والبخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، وأبي داود، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، والحاكم، والطحاويّ. وفي حديث جابر عند مسلم، والترمذيّ، والطحاويّ. وفي حديث أنس عند أحمد، والنسائيّ، وأبي داود. وفي حديث سعد بن أبي وقّاص عند أبي داود، والنسائيّ، والبيهقيّ، والحاكم.
ووجه الجمع بين هذه الروايات المختلفة أن الناس كانوا يأتون النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - أرسالاً، جماعة بعد أخرى، فرأى قوم شروعه - صلى اللَّه عليه وسلم - في الإهلال بعد الفراغ من صلاته بمسجد ذي الحليفة، فنقلوا عنه أنه أهلّ بذلك المكان، ثم أهلّ لَمّا استقلّت به راحلته، فسمعه
(١) -هو ما أخرجه ابن حزم بسنده، عن محمد بن جرير الطبريّ، حدثني محمد بن عبد اللَّه بن سعيد الواسطي، نا يعقوب بن محمد، نا محمد بن موسى، نا إسحاق بن سعيد بن جبير، عن جعفر بن حمزة بن أبي داود المازنيّ، عن أبيه عن جدّه، أبي داود -وهو بدريّ- قال: "خرجنا مع رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - في الحجّ، فلما كان بذي الحليفة، صلّى في المسجد أربع ركعات، ثم لبّى دبر الصلاة، ثم خرج إلى باب المسجد، فإذا راحلته قائمة، فلما انبعثت به أهلّ، فلما علا البيداء أهلّ". انتهى "المحلّى" ٧/ ٩٣.