الأئمة الثلاثة. وذهب أبو حنيفة إلى أن الإشعار بدعة مكروه؛ لأنه مثلة، وتعذيب للحيوان، وهو حرام، وإنما فعله النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - لأن المشركين لا يمتنعون عن التعرّض للَّهدي إلا بالإشعار.
وردّ عليه بأن قوله هذا مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار، وليس هو مثلة، بل هو كالفصد، والحجامة، والختان، والكيّ؛ للمصلحة، وأيضًا إن تعرض المشركين في ذلك الوقت بعيد لقوة الإسلام. وقد قيل: إن كراهة أبي حنيفة له إنما كان من أهل زمانه، فإنهم كانوا يبالغون فيه بحيث يُخاف سراية الجراحة، وفساد العضو. كذا في "اللمعات"(١).
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وبمشروعية الإشعار قال الجمهور، من السلف والخلف. وذكر الطحاويّ في "اختلاف العلماء" كراهته عن أبي حنيفة. وذهب غيره إلى استحبابه للاتباع حتى صاحباه أبو يوسف، ومحمد، فقالا: هو حسن. قال: وقال مالك: يختصّ الإشعار بما لها سنام. قال الطحاويّ: ثبت عن عائشة، وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه، فدلّ على أنه ليس بنسك، لكنه غير مكروه لثبوت فعله عن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، قال الحافظ: وأبعد من منع الإشعار، واعتلّ باحتمال أنه كان مشروعًا قبل النهي عن المثلة، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإشعار في حجة الوداع، وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان.
وقال الخطابيّ وغيره: اعتلال من كره الإشعار بأنه من المثلة مردود، بل هو باب آخر كالكيّ، وشقّ أذن الحيوان؛ ليصير علامة، وغيرذلك من الوسم، وكالختان، والحجامة، وشفقةُ الإنسان على المال عادةٌ، فلا يخشى ما توهّموه من سريان الجرح حتى يفضي إلى الهلاك، ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيّده الذي كرهه به، كأن يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه، فكان قريبًا.
وقد كثر تشنيع المتقدّمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإشعار، وانتصر له الطحاويّ في "المعاني"، فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار، وإنما كره ما يُفعل على وجه يخاف منه هلاك البُدْن، كسراية الجرح، ولا سيما مع الطعن بالشفرة، فأراد سدّ الباب عن العامة؛ لأنهم لا يُراعون الحدّ في ذلك، وأما من كان عارفًا بالسنة في ذلك فلا.
وفي هذا تعقّب على الخطابيّ حيث قال: لا أعلم أحدًا كره الإشعار إلا أبا حنيفة،