الصفا والمروة؛ لكونهم كانوا لا يفعلونه في الجاهلية، ولا يلزم من تركهم فعل شيء في الجاهلية أن يتحرّجوا من فعله في الإسلام، ولولا الزيادة التي من طريق يونس، حيث قال: وكانت سنة في آبائهم الخ، لكان الجمع بين الروايتين ممكنًا بأن نقول: وقع في رواية الزهريّ حذف تقديره أنهم كانوا يُهلون في الجاهلية لمناة، ثم يطوفون بين الصفا والمروة، فكان من أهلّ أي بعد ذلك في الإسلام يتحرّج أن يطوف بين الصفا والمروة؛ لئلا يضاهي فعل الجاهليّة.
ويمكن أيضًا أن يكون في رواية أبي أسامة حذف تقديره: كانوا إذا أهلّوا لمناة في الجاهلية، فجاء الإسلام، فظنّوا أنه أبطل ذلك، فلا يحلّ لهم. ويبيّن ذلك رواية أبي معاوية المذكورة، حيث قال فيها:"فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهليّة". إلا أنه وقع فيها وهَمٌ غير هذا، نبّه عليه عياض، فقال: قوله: "لصنمين على شطّ البحر" وَهَمٌ، فإنهما ما كانا قطّ على شطّ البحر، وإنما كانا على الصفا والمروة، إنما كانت مناة مما يلي جهة البحر انتهى.
وسقط من روايته أيضًا إهلالهم أوّلاً لمناة، فكأنهم كانوا يهلون لمناة، فيبدؤون بها، ثم يطوفون بين الصفا والمروة لأجل إساف ونائلة، فمن ثمّ تحرّجوا من الطواف بينهما في الإسلام. ويؤيّد ما ذكرناه حديث أنس المذكور عند البخاريّ بلفظ:"أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال: نعم؛ لأنها كانت من شعار الجاهلية". وروى النسائيّ بإسناد قوي، عن زيد بن حارثة، قال:"كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس، يقال لهما إساف ونائلة، كان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما … " الحديث. وروى الطبرانيّ، وابن أبي حاتم في "التفسير" بإسناد حسن، من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال:"قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهليّة، فأنزل اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية [البقرة: ١٥٨]. وروى الفاكهيّ، وإسماعيل القاضي في "الأحكام" بإسناد صحيح عن الشعبيّ، قال: "كان صنم بالصفا يُدْعَى إساف، ووثن بالمروة يدعى نائلة، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام رمى (١) بهما، وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم، فأمسكوا عن السعي بينهما، قال: فأنزل اللَّه تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية [البقرة: ١٥٨]. وذكر الواحديّ في "أسبابه" عن ابن عباس نحو هذا، وزاد فيه: يزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة، فمسخا حجرين، فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عُبِدَا، والباقي نحوه. وروى الفاكهي بإسناد صحيح إلى أبي مجلز نحوه. وفي "كتاب مكة" لعمر بن شبّه بإسناد قويّ عن مجاهد في هذه الآية، قال: قالت الأنصار: إن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية،
(١) هكذا نسخة "الفتح" ولعل الصواب "رموا". واللَّه تعالى أعلم.