للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

اللبن عليّ الصبيّ، ويفسد به جسده، وتضعف قوته، حتى ربّما كان ذلك في عقله، قال: وقد قال النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - فيه: "إنه ليدرك الفارس، فيُدعثره عن سرجه" (١). أي يضعُف، فيسقط عن السرج، قال الشاعر [من الوافر]:

فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعِ … فَتَنْبُوا فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ

يقال: قد أغال الرجل ولده، وأُغيل الصبيّ، وصبيّ مُغالٌ، ومُغْيَلٌ: إذا وَطِىء أبوه أمّه في رضاعه، قال امرؤ القيس [من الطويل]:

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعِ … فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُغْيَلِ

وقال بعض أهل اللغة: الغِيلة أن تُرضع المرأة ولدها، وهي حاملٌ. وقال غيره: الغيل نفس الرضاع. انتهى (٢).

وقال أبو العبَّاس القرطبيّ بعد أن ذكر المعنيين السابقين: والحاصل أن كلّ واحد منهما يقال عليه غيلة في اللغة، وذلك أن اللفظ كيفما دار إنما يرجع إلى الضرر والهلاك، ومنه تقول العرب: غالني أمر كذا: أي أضرّ بي، وغالته الغول: أي أهلكته، وكلّ واحدة من الحالتين المذكورتين مُضرّةٌ بالولد، ولذلك يصحّ أن تُحمل الغيلة في الحديث على كلّ واحد منهما.

فأما ضرر المعنى الأول، فقالوا: إن الماء -يعني المنيّ- يُغيل اللبن: أي يفسده، ويُسأل عن تعليله أهل الطب. وأما الثاني، فضرره بيّن محسوس، فإن لبن الحامل داء، وعلّة في جوف الصبيّ، يظهر أثره عليه.

ومراده - صلى اللَّه عليه وسلم - بالحديث المعنى الأول، دون الثاني؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى نظر في كونه يضرّ الولد، حتى احتاج النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - إلى أن ينظر إلى أحوال غير العرب الذين يصنعون ذلك، فلما رأى أنه لا يضرّ أولادهم لم يَنْهَ عنه. وأما الثاني، فضرره معلومٌ للعرب، وغيرهم، بحيث لا يحتاج إلى نظر، ولا فكر.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كون المراد من الحديث المعنى الأول فقط، مع أن أهل اللغة أثبتوا المعنيين محلّ نظر. واللَّه تعالى أعلم.


(١) هو ما أخرجه أحمد في "مسنده"، وابن ماجه في "سننه"، ولفظه: حدثنا حماد بن خالد، قال: ثنا معاوية -يعني ابن صالح- عن المهاجر، مولى أسماء بنت يزيد الأنصارية، قال: سمعت أسماء بنت يزيد، تقول: سمعت النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فوالذي نفسي بيده، إنه ليدرك الفارس، فيدعثره"، قالت: قلت: ما يعني؟ قال: الغيلة يأتي الرجل امرأته، وهي ترضع. وهو حديث حسن.
(٢) "التمهيد" ١٣/ ٩١ - ٩٣. و"الاستذكار" ١٨/ ٢٨٢ - ٢٨٣.