للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقد اختلف أصحابنا، وغيرهم من العلماء في أنه - صلى اللَّه عليه وسلم -، هل كان يلزمه القسم بينهنّ في الدوام، والمساواة في ذلك، كما يلزم غيره، أم لا يلزمه، بل يفعل ما يشاء، من إيثار وحرمان؟ (١). فالمراد بالحديث طلب المساواة في محبّة القلب، لا العدل في الأفعال، فإنه كان حاصلًا قطعًا، ولهذا كان يُطاف به - صلى اللَّه عليه وسلم - في مرضه عليهنّ حتى ضَعُف، فاستأذنهنّ في أن يُمَرَّض في بيت عائشة، فأَذِنَّ له انتهى (٢).

وقال أبو العبَّاس القرطبيّ: طلب أزواج النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - منه العدل بينهنّ، وبين عائشة - رضي اللَّه تعالى عنهن - ليس على معنى أنه جار عليهنّ، فمنعهن حقًّا هو لهنّ؛ لأنه - صلى اللَّه عليه وسلم - منزَّهٌ عن ذلك، ولأنه لم يكن العدل بينهنّ واجبًا عليه، لكن صدر ذلك منهنّ بمقتضى الْغَيْرة والحرص على أن يكون لهن مثلُ ما كان لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من إهداء الناس له، إذا كان في بيوتهنّ، فكأنهنّ أردن أن يأمر من أراد أن يُهدي له شيئًا ألا يتحرّى يوم عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ولذلك قال: "وكان الناس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة".

ويحتمل أن يقال: إنهنّ طلبن منه أن يُسوّي بينهنّ في الحبّ، ولذلك قال - صلى اللَّه عليه وسلم - لفاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "ألست تحُبّين من أُحبّ؟ " قالت: بلى، قال: "فأَحِبِّي هذه"، وكلا الأمرين لا يجب العدل فيه بين النساء، أما الهديّة فلا تُطلب من المهدي، فلا يتعيّن لها وقتٌ، وأما الحبّ، فغير داخل تحت قدرة الإنسان، ولا كسبه. انتهى (٣).

وقال الحافظ وليّ الدين: مقتضى القصة التي سُقناها من عند البخاريّ أن الذي طلبنه منه مساواتهنّ لعائشة في الإهداء للنبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - في بيوتهنّ، وقد صرّحت له أم سلمة بذلك مرارًا قبل حضور فاطمة، وزينب، ولم يصدُر ذلك منهنّ عن اعتدال، وهذا الكلام فيه تعريضٌ بطلب الهديّة، واستدعائها، وذلك ينافي كماله - صلى اللَّه عليه وسلم - أن يقوله على سبيل العموم، أما قوله ذلك لواحد بعينه على سبيل الانبساط إليه، وتكريمه فلا مانع منه، بل آحاد ذوي المودّات يمتنع من مثل ذلك، ولعلّ قوله - صلى اللَّه عليه وسلم - في جواب أم سلمة: "لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني، وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة"، إشارة إلى أن تقليب قلوب الناس للإهداء في نوبة عائشة أمرٌ سماويٌّ، لا حِيلة لي فيه، ولا صنع بدليل اختصاصها بنزول الوحي عليّ، وأنا في ثوبها، دون غيرها من أمهات المؤمنين، فلا يمكنني قَطْعُ ذلك، ولا آمْرُ الناس بخلافه انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى- (٤).


(١) قال الجامع: تقدّم قريبًا ترجح عدم الوجوب، فتنبّه.
(٢) "شرح مسلم" ١٦/ ٢٠١ "كتاب فضائل الصحابة".
(٣) "المفهم" ٦/ ٣٢٤ - ٣٢٥. "باب فضائل عائشة".
(٤) "طرح التثريب في شرح التقريب" ٧/ ٥١ - ٥٢.