فاعترضه بأن اللَّه كتب على المسلمين الوصيّة، وأُمروا بها، فكيف لم يفعلها النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -؟ فأجابه بما يدلّ على أنه أطلق في موضع التقييد، قال: وهذا يُشعر بأن ابن أبي أوفى، وطلحة بن مصرّف كانا يعتقدان أن الوصيّة واجبة. كذا قال. قاله في "الفتح".
(قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ) أي بالتمسّك به، والعمل بمقتضاه، ولعلّه أشار لقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لم تضلّوا، كتاب اللَّه". وأما ما صحّ في مسلم وغيره أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - "أوصى عند موته بثلاث: لا يَبقينّ بجزيرة العرب دينان"، وفي لفظ:"أخرجوا اليهود من جزيرة العرب"، وقوله:"أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أُجيزهم به"، ولم يذكر الراوي الثالثة، وكذا ما ثبت في النسائيّ أنه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "كان آخر ما تكلّم به الصلاة، وما ملكت أيمانكم"، وغير ذلك من الأحاديث التي يمكن حصرها بالتتبّع، فالظاهر أن ابن أبي أوفى لم يُرد نفيه، ولعلّه اقتصر على الوصيّة بكتاب اللَّه لكونه أعظم، وأهمّ، ولأن فيه تبيان كلّ شيء، إما بطريق النصّ، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتّبع الناس ما في كتاب اللَّه، عملوا بكلّ ما أمرهم النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - به؛ لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [الحشر: ٧]، أو يكون لم يَحْضُر شيئًا من الوصايا المذكورة، أو لم يستحضرها حال قوله.
والأولى أنه إنما أراد بالنفي الوصيّة بالخلافة، أو بالمال، وساغ إطلاق النفي، أما في الأول، فبقرينة الحال، وأما في الثاني، فلأنه المتبادر عرفًا. وقد صحّ عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - "أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - لم يوص". أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أرقم بن شُرَحبيل عنه، مع أن ابن عبّاس هو الذي روى حديث أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أوصى بثلاث، والجمع بينهما على ما تقدّم.
وقال الكرمانيّ: قوله: "أوصى بكتاب اللَّه" الباء زائدة، أي أمر بذلك، وأطلق الوصيّة على سبيل المشاكلة، فلا منافاة بين النفي والإثبات.
قال الحافظ: ولا يخفى بُعدُ ما قال، وتكلّفه، ثم قال الكرمانيّ: أو المنفيّة الوصيّة بالمال، أو الإمامة، والمثبت الوصيّة بكتاب اللَّه، أي بما في كتاب اللَّه أن يعمل به انتهى. قال الحافظ: وهذا الأخير هو المعتمد. انتهى (١). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.