استثنى الصيام، فقال: لا يُجزىء إلا بعد الحنث. وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفّارة قبل الحنث. ونقل الباجيّ عن مالك وغيره روايتين، واستثنى بعضهم عن مالك الصدقة، والعتق، ووافق الحنفيّة أشهب من المالكيّة، وداود الظاهريّ، وخالفه ابن حزم، واحتجّ لهم الطحاويّ بقوله تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}[المائدة: ٨٩]، فإن المراد إذا حلفتم، فحنِثتم. وردّه مخالفوه، فقالوا: بل التقدير: فأردتم الحنث، وأولى من ذلك أن يقال: التقدير أعلم من ذلك، فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر.
واحتجوا أيضًا بأن ظاهر الآية أن الكفّارة وجبت بنفس اليمين. ورده من أجاز بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقًا. واحتجّوا أيضًا بأن الكفّارة بعد الحنث فرضٌ، واخراجها قبله تطوّعٌ، فلا يقوم التطوّع مقام الفرض. وانفصل عنه من أجاز بأنه يشترط إرادة الحنث، وإلا فلا يجزئ، كما في تقديم الزكاة. وقال عياض: اتفقوا على أن الكفّارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث، واستحبّ مالكٌ، والشافعيّ، والأوزاعيّ، والثوريّ تأخيرها بعد الحنث، قال عياض: ومنع بعض المالكيّة تقديم كفّارة حنث المعصية (١)؛ لأن فيه إعانة على المعصية. وردّه الجمهور.
قال ابن المنذر: واحتُجّ للجمهور بأن اختلاف ألفاظ حديثي أبي موسى، وعبد الرحمن بن سمرة - رضي اللَّه عنهما - لا يدلّ على تعيين أحد الأمرين، وإنما أمر الحالف بأمرين، فهذا أتى بهما جميعًا، فقد فعل ما أُمر به، وإذا لم يدلّ الخبر على المنع، فلم يبق إلا طريق النظر، فاحتُجّ للجمهور بأن عقد اليمين لمّا كان يحلّه الاستثناء، وهو كلام، فلأن تحلّه الكفّارة، وهي فعل ماليّ، أو بدنيّ أولى. ويرجّح قولهم أيضًا بالكثرة. وذكر أبو الحسن بن القصّار، وتبعه عياض، وجماعة أن عدّة من قال بجواز تقديم الكفّارة أربعة عشر صحابيًّا، وتبعهم فقهاء الأمصار، إلا أبا حنيفة، مع أنه قال فيمن أخرج ظبية من الحرم إلى الحل، فولدت أولادًا، ثم ماتت في يده هي وألادها أن عليه جزاءها، وجزاء أولادها, لكن إن كان حين إخراجها أدّى جزاءها لم يكن عليه في أولادها شيء مع أن الجزاء الذي أخرجه عنها كان قبل أن تلد أولادها، فيحتاج إلى الفرق، بل الجواز في كفارة اليمين أولى. وقال ابن حزم: أجاز الحنفيّة تعجيل الزكاة قبل الحول، وتقديم زكاة الزرع، وأجازوا تقديم كفّارة القتل قبل موت المجنيّ عليه.
واحتجّ الشافعيّ بأن الصيام من حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها
(١) تقدّم في كلام النوويّ عزوه لبعض الشافعيّة، ولعله محكي عن الفريقين. واللَّه تعالى أعلم.