وقالوا: هذا مخصّص عموم قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: ٤٨]، ورأوا أن الوعيد نافذ حتمًا على كلّ قاتل، فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا: التقدير: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدًا.
وذهب جماعة من العلماء منهم: عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه عنه - وهو أيضًا مرويّ عن زيد بن ثابت، وابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهم - إلى أن له توبةً، روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعيّ، عن سعيد عبيدة، قال: جاء رجل إلى ابن عبّاس، فقال: ألمن قتل مؤمنًا متعمّدًا توبة؟ قال: لا إلا النار، قال: فلمّا ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبةً مقبولة، قال: إني لأحسبه رجلاً مُغضبًا، يريد أن يقتُل مؤمنًا، قال: فبعثوا في إثره، فوجدوه كذلك.
وهذا مذهب أهل السنّة، وهو الصحيح، وأن هذه الآية مخصّصة، ودليل التخصيص آياتٌ وأخبارٌ، وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن ضبابة، وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن ضبابة، فوجدوا هشامًا قتيلًا في بني النجّار، فأخبر بذلك النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه، وأرسل معه رجلاً من بني فهو، فقال بنو النجَّار: واللَّه ما نعلم له قاتلًا، ولكنّا نؤدّي الدية، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فعدا مقيس على الفهريّ، فقتله بأخيه، وأخذ الإبل، وانصرف إلى مكة كافرًا مرتدًا، وجعل يُنشد:
فقال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لا أُأمّنه في حلّ، ولا حرم"، وأمر بقتله يوم فتح مكّة، وهو متعلّقٌ بالكعبة. وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير، وعلماء الدين، فلا ينبغي أن يُحمل على المسلمين. ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: ١١٤]، وقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الآية [الشورى: ٢٥]، وقوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: ٤٨]، والأخذ بالظاهرين تناقضٌ، فلا بُدّ من التخصيص.
ثم إن الجمع بين آية "الفرقان"، وهذه الآية ممكن، فلا نسخ، ولا تعارض، وذلك أن يُحمل مطلق آية "النساء" على مقيّد آية "الفرقان"، فيكون معناه: فجزاؤه كذا إلا من تاب، لا سيّما وقد اتحد الموجِب، وهو القتل، والموجَب، وهو التواعد بالعقاب.