وأما الأخبار، فكثيرة، كحديث عُبادة بن الصامت - رضي اللَّه تعالى عنه - الذي قال فيه:"تبايعوني على أن لا تُشركوا باللَّه شيئًا, ولا تزنوا, ولا تسرِقوا, ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللَّه إلا بالحقّ، فمن وفي منكم فأجره على اللَّه، ومن أصاب شيئًا من ذلك، فعوقب به، فهو كفّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فستره اللَّه عليه، فأمره إلى اللَّه، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذّبه". متّفقٌ عليه. وكحديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -، عن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - في الذي قتل مائة نفس. متّفقٌ عليه. إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة.
ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل، ويُقرّ بأنه قتل عمدًا، ويأتي السلطانَ الأولياءُ, فيقام عليه الحدّ، ويُقتل قَوَدًا، فهذا غير متَّبَع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعًا على مقتضى حديث عبادة - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}[النساء: ٩٣]، ودخله التخصيص بما ذكرنا، وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بيّنّا، أو تكون محمولةً على ما حُكي عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى - عنهما أنه قال:{مُتَعَمِّدًا} معناه مستحلًّا لقتله، فهذا أيضًا يؤول إلى الكفر إجماعًا.
وقالت جماعة: إن القاتل في المشيئة تاب، أو لم يتُب. قاله أبو حنيفة، وأصحابه. [فإن قيل]: إن قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} دليلٌ على كفره؛ لأن اللَّه تعالى لا يغضب إلا على كافر خارج من الإيمان. [قلنا]: هذا وعيد، والخلف في الوعيد كرم، كما قال:
وقد تقدّم جوابٌ ثان: إن جازاه بذلك، أي هو أهلٌ لذلك، ومستحقّه لعظم ذنبه. نصّ على هذا أبو مِجْلَز لاحقُ بْنُ حُميد، وأبو صالح، وغيرهما. وروى أنس بن مالك - رضي اللَّه عنه -، عن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه قال:"إذا وعد اللَّه لعبد ثوابًا، فهو منجزه، وإن أوعد له العقوبةَ، فله المشيئة، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه"(١). وفي هذين التأويلين دَخَلٌ، أما الأول، فقال القشيريّ: وفي هذا نظرٌ؛ لأن كلام الربّ لا يَقبل الخلف، إلا أن يُراد بهذا تخصيص العامّ، فهو إذًا جائزٌ في الكلام. وأما الثاني، وإن روي أنه مرفوع، فقال النّحّاس: وهذا الوجه الغلط فيه بيّنٌ، وقد قال اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} الآية [الكهف: ١٠٦]، ولم يقل أحدٌ: إن جازاهم، وهو
(١) قال الجامع: هذا يحتاج إلى البحث في سنده، ولم يعزه القرطبيّ إلى أي مرجع، ولم اتمكن من البحث عنه، فاللَّه تعالى أعلم بثبوته.