فالأصلُ عِصمتُهُ إِلَى أَنْ يَمْتَطِي … إِحْدَى الثَّلَاث إِلى الْهَلَاك رِكَابَا
قَالَ: فَهَذَا مِنْ الْمَالِكِيَّة، اخْتَارَ خِلَاف مَذْهَبه، وَكَذَا اسْتَشْكَلَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، مِنْ الشَّافِعِيَّة.
قال الحافظ: تَارِك الصَّلاة اخْتُلِفَ فِيهِ، فَذَهَبَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاق، وَبَعْض الْمَالِكِيَّة، وَمِنْ الشَّافِعِيَّة ابْن خُزَيْمَةَ، وَأَبُو الطَّيِّب بْن سَلَمَة، وَأَبُو عُبَيْد بْن جُوَيْرِيَةَ، وَمَنْصُور الْفَقِيه، وَأَبُو جَعْفَر التِّرْمِذِيّ، إِلَى أَنَّهُ يُكَفَّر بِذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَجْحَد وُجُوبَها. وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهُ يُقْتَل حدًّا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّة، وَوَافَقَهُمْ الْمُزَنِيُّ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّر، وَلَا يُقْتَل.
وَمِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى عَدَم كُفْره حَدِيث عُبَادَةَ - رضي اللَّه تعالى عنه -، رَفَعَهُ: "خَمْس صَلَوَات، كَتَبَهُنَّ اللَّه عَلَى الْعِبَاد" الْحَدِيث، وَفِيهِ: "وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهنَّ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْد اللَّه عَهْد، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّة". أَخْرَجَهُ مَالِك، وَأَصْحَاب السُّنَن، وَصَحَّحَهُ ابْن حِبَّان، وَابْن السَّكَن، وَغَيْرهمَا.
وَتَمَسَّكَ أَحْمَدُ، وَمَنْ وَافَقَهُ بِظَوَاهِر أَحَادِيثَ، وَرَدَتْ بِتَكْفِيْرِهِ، وَحَمَلَهَا مَنْ خَالَفَهُمْ عَلَى الْمُسْتَحِلّ؛ جَمْعًا بَيْن الْأَخْبَار، وَاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَأَرَادَ بَعْض مَنْ أَدْرَكْنَا زَمَانه، أَنْ يُزِيل الإِشْكَال، فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس، حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَه إِلا اللَّه، وَيُقِيمُوا الصَّلَاة، وَيُؤْتُوا الزَّكَاة". وَوَجْه الدَّلِيل مِنْهُ، أَنَّهُ وَقَفَ الْعِصْمَة عَلَى الْمَجْمُوع، والْمُرَتِّبُ عَلَى أَشْيَاء، لا يَحْصُل إِلا بِحُصُولِ مَجْمُوعهَا، وَينْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضهَا. قَالَ: وَهَذَا إِنْ قَصَدَ الِاسْتِدْلَال بِمَنْطُوقِهِ، وَهُوَ "أُقَاتِل النَّاس إِلَخْ"، فَإِنَّه يَقْتَضِي الْأَمْر بِالْقِتَالِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَة، فَقَدْ ذَهِلَ لِلْفَرْقِ بَيْن الْمُقَاتَلَة عَلَى الشَّيْء، وَالْقَتْل عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُقَاتَلَة مُفَاعَلَةٌ، تَقْتَضِي الْحُصُول مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يَلْزَم مِنْ إِبَاحَة الْمُقَاتَلَة عَلَى الصَّلاة، إِبَاحَة قَتْل الْمُمْتَنِع مِنْ فِعْلهَا، إِذَا لَمْ يُقَاتِل، وَلَيْسَ النِّزَاع فِي أَنَّ قَوْمًا، لَوْ تَرَكُوا الصَّلَاة، وَنَصَبُوا الْقِتَال، أَنَّهُ يَجِب قِتالهمْ، وَإِنَّمَا النَّظَر فِيمَا إِذَا تَرَكَهَا إِنْسَان، مِنْ غَيْر نَصْب قِتَال، هَلْ يُقْتَل أَوْ لَا، وَالْفَرْق بَيْن الْمُقَاتَلَة عَلَى الشَّيْء، وَالْقَتْل عَلَيْهِ ظاهِرٌ. وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْ آخِر الْحَدِيث، وَهُوَ تَرَتُبُ الْعِصْمَةِ عَلَى فِعْل ذلِك، فَإِنَّ مفهُومه يَدُلّ عَلَى أنها لا تترتَّب عَلَى فِعْل بعضه، هَان الأمر؛ لأنها دلالة مفهوم، وَمُخَالِفُهُ في هذه المسألة لا يقول بالمفهومِ، وأمَّا من يقول به، فله أن يدفع حجته، بأنه عارضته دلالة المنطوق، في حدِيث البَاب، وهي أرجح، من دلالة المفهوم، فَيُقَدَّم عليها.
وَاسْتَدَلَّ به بَعْض الشَّافِعِيَّة لِقَتلِ تارِك الصَّلَاة؛ لأنه تارِكٌ لِلدِّينِ، الذي هو العمل،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute