إلى قوله:{غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة: ٣٤] نزلت هذه الآية في المشركين، فمن أُخذ منهم قبل أن يُقدَر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه، وممن قال: إن الآية نزلت في المشركين عكرمة، والحسن، وهذا ضعيف، يرده قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [الأنفال:٣٨]، وقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "الإسلام يهدم ما قبله"، أخرجه مسلم. والصحيح الأول؛ لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك.
وقال مالك، والشافعيّ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد، قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، قال أبو ثور محتجًا لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله جل ثناؤه:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية [المائدة: ٣٤]، وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا، أن دماءهم تحرم، فدلّ ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام.
وحكى الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نَسخت فعل النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - في العرنيين، فوُقف الأمر على هذه الحدود. ورَوى محمد بن سيرين قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، يعني حديث أنس، ذكره أبو داود.
وقال قوم: منهم الليث بن سعد: ما فعله النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - بوفد عرينة نُسخ، إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد. قال أبو الزناد: إن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - لما قطع الذين سرقوا لقاحه، وسمل أعينهم بالنار، عاتبه اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- في ذلك، فأنزل اللَّه تعالى في ذلك:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الآية [المائدة: ٣٣]، أخرجه أبو داود، قال أبو الزناد: فلما وُعظ، ونُهي عن المثلة لم يعد.
وحُكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل؛ لأن ذلك وقع في مرتدين، لاسيما وقد ثبت في "صحيح مسلم" وكتاب النسائيّ، وغيرهما قال:"إنما سمل النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة، فَكَانَ هذا قصاصا"، وهذه الآية في المحارب المؤمن.
قال القرطبيّ: وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك، والشافعي، ولذلك قال اللَّه تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}[المائدة: ٣٤]، ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة، كما تسقط قبل القدرة، والمرتد يستحق القتل بنفس الردة، دون المحاربة، ولا يُنفَى، ولا تُقطع يده ولا رجله، ولا يُخَلَّى سبيله، بل يُقتل إن لم يسلم، ولا يُصَلّب أيضًا، فدلّ أن ما