(المسألة الثامنة): أجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب، فإن قَتَل محارب أخا امريء أو أباه في حالة المحاربة، فليس إلى طالب الدّم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم، وإنما القائم بذلك هو الإمام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود اللَّه تعالى. قاله القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} الآية بيان لشناعة المحاربة، وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر؛ لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس؛ لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الأرض، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآية [المزّمّل: ٢٠]، فإذا أُخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم، فشرع اللَّه على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا؛ ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة، وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي، ومستثناة من حديث عبادة - رضي اللَّه عنه - في قول النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -: "فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة"، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجري هذا الذنب مجرى غيره، ولا خلود لمؤمن في النار، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة، وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة؛ لقوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: ٤٨]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}[المائدة: ٣٤] استثنى اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- التائبين قبل أن يُقدَر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله:{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، أما القصاص، وحقوق الآدميين فلا تسقط، ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه، كما تقدّم، وللشافعي قول أنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصا كان أو غيره، فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه، وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب، وآمن قبل القدرة عليه، فإنه تسقط عنه الحدود، وهذا ضعيف؛ لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضًا بالإجماع، وقيل: إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم -واللَّه أعلم- لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم،