عليهِ بالنيةِ المُجرَّدة، وُيؤيّدهُ حدِيث:"إِنَّ اللَّه تجًاوز لأُمتِي ما حدّثت بِهِ أنفُسها، ما لم يتكلّمُوا بِهِ، أوْ يعملوا".
والحاصِل أن المراتِب ثلاث: الهم المُجرَّد، وهُو يُثاب عليهِ، ولا يُؤاخذ بِهِ، واقتِران الفِعْل بالهمَّ، أوْ بِالعزمِ، ولا نِزاع في المُؤَاخذة بِهِ، والعزْم، وهُو أقوى من الهَمّ، وفِيهِ النزاع. انتهى (١).
وقال في "كتاب الرقاق" عِند الكلام على حديث: "ومنْ همَّ بِسيِّئةٍ، فلم يعملها، كتبها اللَّه عنده حسنة كاملة":
قال المازريّ: ذهب ابن الباقِلَّانيّ -يعني ومنْ تبِعهُ- إِلى أن من عزم على المعصية بِقلبِهِ، ووطَّن عليها نفسهُ، أنهُ يأثم، وحمل الأحادِيث الوارِدة في العفو عمن هَمَّ بِسيَّئةٍ، ولم يعملها على الخاطِرِ الذِي يمُرُّ بِالقلب، ولا يستقرّ.
قال المازريّ: وخالفهُ كثير من الفُقهاء، والمحدِّثِين، والمُتكلِّمِين، ونقل ذَلِكَ عن نصّ الشّافِعِيِّ، وُيؤيدُهُ قوْله في حدِيث أبِي هُريرة، فِيما أخرجهُ مُسلم، من طرِيق همّام عنهُ، بِلفظِ:"فأنَا أغفِرُها لهُ ما لم يعملها"، فإِنّ الظّاهِر أن المراد بِالعملِ هُنا عمل الجارِحة بِالمعصِيةِ المهموم بِهِ.
وتعقَّبهُ عِياض بِأن عامّة السلف، وأهل العِلم على ما قال ابْنِ الباقِلَّانِي؛ لاتفاقِهِم على المؤاخذة بِأعمالِ القُلُوِب، لكِنهُم قالُوا: إِنَّ العزم على السَّيّئة، يُكتب سيِّئة مُجرَّدة، لا السَّيِّئة التِي هم أن يعملها، كمن يأمر بِتحصِيلِ معصِية، ثُمَّ لا يفعلُها بعد حُصُولها، فإنَّه يأثم بِالأمرِ المذكور، لا بِالمعصِيةِ، ومِمّا يدُل على ذَلِكَ حدِيث:"إِذا التقى المسلِمانِ بِسيفيهِما، فالقاتِل والمقتُول في النَّار"، قِيل: هذا القاتِل، فما بالُ المقتُول؟ قال: إِنَّهُ كان حرِيصًا على قتل صاحِبهِ".
قال الحافظ: والذِي يظهر أنهُ من هذا الجِنس، وهُو أنهُ يُعاقب على عزمه، بِمِقدارِ ما يستحِقّهُ، ولا يُعاقب عِقاب من باشر القتل حِسًّا.
وهُنا قِسم آخرُ، وهُو من فعل المعصِية، ولم يتُب مِنها، ثُمَّ همَّ أن يعُود إِليها، فإنَّه يُعاقب على الإصرار، كما جزم بِهِ ابْنِ المبارك وغيره، في تفسِير قوْله تعالى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: ١٣٥]، وُيؤيِّدهُ أن الإصرار معصِية اتفاقًا، فمن عزم على المعصِية، وصمَّم عليها، كُتِبت عليهِ سيِّئة، فإذا عمِلها كُتِبت عليهِ معصِية ثانِية.
قال النّووِيّ: وهذا ظاهِرٌ حسنٌ، لا مزِيد عليهِ، وقد تظاهرت نُصُوص الشَّرِيعة
(١) "فتح" ١٤/ ٥٣٠ - ٣٥١. "كتاب الفتن" حديث رقم ٧٠٨٣.