وانتصر ابن العربيّ فِي ذلك لمذهبه بما لا يقبله منصف، ولا يرتضيه لنفسه عاقل، فَقَالَ: الذي قصد مالك هو أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لَمّا جعل العاقدين بالخيار بعد تمام البيع، ما لم يتفرّقا، ولم يكن لفرقتهما، وانفصال أحدهما عن الآخر وقتٌ معلوم، ولا غاية معروفة، إلا أن يقوما، أو يقوم أحدهما عَلَى مذهب، وهذه جهالة يقف معها انعقاد البيع، فيصير منْ باب بيع المنابذة، والملامسة، بان يقول: إذا لمسته، فقد وجب البيع، وإذا نبذته، أو نبذت الحصاة، فقد وجب البيع، وهذه الصفة مقطوع بفسادها فِي العقد، فلم يتحصّل المراد منْ الْحَدِيث مفهومًا، وإن فسّره ابن عمر راويه بفعله، وقيامه عن المجلس، ليجب البيع، فإنما فسّره بما يثبت الجهالة فيه، فيدخل تحت النهي عن الغرر، كما يوجبه النهي عن الملامسة، والمنابذة، وليس منْ قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولا تفسيره، وإنما هو منْ فهم ابن عمر، وأصل الترجيح الذي هو قضيّة الأصول أن يقدّم المقطوع به عَلَى المظنون، والأكثر رواةً عَلَى الأقلّ، فهذا هو الذي قصده مالك، مما لا يدركه إلا مثله، ولا يتفطّن له أحد قبله، ولا بعده، وهو إمام الأئمة، غير مدافع له فِي ذلك. انتهى.
وهو عجيب، أيُتَمَعْقَلُ عَلَى الشارع، ويقال له: هَذَا الذي حكمت به غرر، وَقَدْ نهيت عن الغرر، فلا نقبل هَذَا الحكم، ونتمسّك بقاعدة النهي عن الغرر، وأيّ غرر فِي ثبوت الخيار، رفقا بالمتعاقدين؛ لاستدراك ندم، وهذا المخالف يُثبت خيار الشرط، عَلَى ما فيه منْ الغرر بزعمه، وحديث خيار المجلس أصحّ منه، ويعتبر التفرّق فِي إبطاله للبيع، إذا وُجد قبل التقابض فِي الصرف، ولا يرى تعليق ذلك بالتفرّق بالأبدان غررًا، مبطلاً للعقد، ثم بتقدير أن يكون فيه غررٌ، فقد أباح الشارع الغرر فِي مواضع معروفة، كالسلم، والإجارة، والحوالة، وغيرها، ثم بتقدير أن يكون لحكمة اقتضت ذلك، بل ولو لم يظهر لنا حكمته، فإنه يجب علينا الأخذ به تعبّدًا، والمسلك الذي نفاه عن إمامه أقلّ مفسدة منْ الذي سلكه، فإن ذاك تقديم للإجماع فِي اعتقاده، إن صحّ عَلَى خبر الواحد، وأما ما سلكه ففيه ردّ السنن بالرأي، وذلك قبيحٌ بالعلماء. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله تعالى "طرح التثريب" ٦/ ١٥٤ - ١٥٥.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: فقد أجاد الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى فِي هَذَا الردّ عَلَى ابن العربي، فإن ما ذهب إليه الجمهور هو الحقّ، والانتصار للحقّ هو الواجب عَلَى العلماء.
والحاصل أنه قد اتّضح بما سبق منْ إيراد أدلّة الفريقين أن الحقّ هو ما عليه