الجمهور، منْ إثبات خيار المجلس؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالتقليد والاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): لم يُذكر فِي الْحَدِيث للتفرق ضابطٌ، فيكون مرجعه إلى العرف، وَقَدْ كَانَ ابن عمر، راوي الْحَدِيث، إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه، وفي رواية: إذا ابتاع بيعًا، وهو قاعد، قام ليجب له، وفي رواية: كَانَ إذا بايع رجلاً، فأراد أن لا يقيله قام، فمشى هُنيّةً، ثم رجع إليه. قَالَ وليّ الدين: قَالَ أصحابنا -يعني الشافعيّة-: ما عدّه النَّاس تفرّقًا، لزم به العقد، فلو كانا فِي دار صغيرة، فالتفرق أن يخرج أحدهما منها، أو يصعد السطح، وكذا لو كانا فِي مسجد صغير، أو سفينة صغيرة، فالتفرّق أن يخرج أحدهما منها، فإن كانت الدار كبيرة، حصل التفرّق بأن يخرج أحدهما منْ البيت إلى الصحن، أو منْ الصحن إلى بيت، أو صفّة، وإن كانا فِي صحراء، أو سوق، فإذا ولّى أحدهما ظهره، ومشى قليلاً، حصل التفرّق عَلَى الصحيح، وَقَالَ الإصطخريّ: يشترط أن يبعد عن صاحبه، بحيث لو كلّمه عَلَى العادة منْ غير رفع صوت لم يسمع كلامه، ولا يحصل التفرّق بأن يُرخَى بينهما سترٌ، أو يُشقّ نهرٌ، وهل يحصل ببناء جدار بينهما، فيه وجهان، أصحّهما لا، وصحن الدار، والبيت الواحد إذا تفاحش اتساعهما كالصحراء، فلو تناديا متباعدين، وتبايعا، فلا شكّ فِي صحّة البيع. ثم قَالَ إمام الحرمين: يحتمل أن لا يقال: لا خيار لهما؛ لأن التفرّق الطارىء يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، ويحتمل أن يقال: يثبت ما داما فِي موضعهما، وبهذا قطع المتولّي، ثم إذا فارّق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر، أم يدوم إلى أن يفارق مكانه، فيه احتمالان للإمام، قَالَ النوويّ: الأصح ثبوت الخيار، وأنه متى فارق أحدهما موضعه، بطل خيار الآخر. وحكى ابن عبد البرّ عن الأوزاعيّ، قَالَ: حدّ التفرقة أن يتوارى كلّ واحد منهما عن صاحبه، وهو قول أهل الشام، قَالَ: وَقَالَ الليث ابن سعد: التفرّق أن يقوم أحدهما. انتهى. "طرح التثريب" ٦/ ١٥٥ - ١٥٦.
وَقَالَ ابن حزم رحمه الله تعالى فِي "المحلّى": فإن تبايعا فِي بيت، فخرج أحدهما عن البيت، أو دخل حنية فِي البيت، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، أو تبايعا فِي حنية، فخرج أحدهم إلى البيت، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، فلو تبايعا فِي صحن دار، فدخل أحدهما البيت، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، فلو تبايعا فِي دار، أو خصّ، فخرج أحدهما إلى الطريق، أو تبايعا فِي طريق، فدخل أحدهما دارًا، أو خصّا، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، فإن تبايعا فِي سفينة، فدخل أحدهما البليج، أو الخزانة، أو مضى إلى الفندقوق، أو صعِد الصاري، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، وكذلك لو تبايعا فِي أحد هذه الواضع، فخرج أحدهما