واستدل الطحاوي، بحديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- الآتي، قَالَ: فلما لم يبطل دينُ الغرماء بذهاب الثمار، وفيهم باعتها، ولم يؤخذ الثمن منهم، دلَّ عَلَى أن الأمر بوضع الجوائح، ليس عَلَى عمومه. والله تعالى أعلم. الهى.
وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: ما تهلكه الجائحة منْ الثمار، منْ ضمان البائع، وبهذا قَالَ أكثر أهل المدينة، منهم: يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومالك، وأبو عبيد، وجماعة منْ أهل الْحَدِيث، وبه قَالَ الشافعيّ فِي القديم.
وَقَالَ أبو حنيفة، والشافعي فِي الجديد: هو منْ ضمان المشتري؛ لما رُوي: أن امرأة أتت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن ابني اشرى ثمرة منْ فلان، فأذهبتها الجائحة، فسأله أن يضع عنه، فتألى أن لا يفعل، فَقَالَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "تألّى فلان أن لا يفعل خيرا؟ "(١)، ولو كَانَ واجبا لأجبره عليه، ولأن التخلية يتعلق بها جواز التصرف، فتعلق بها الضمان، كالنقل، والتحويل، ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي، كذلك لا يضمنه بإتلاف غيره.
ولنا ما رَوَى مسلم فِي "صحيحه" عن جابر -رضي الله عنه-: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح، وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن بعت منْ أخيك ثمرا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك، بغير حق؟ "، رواه مسلم، وأبو داود، ولفظه:"منْ باع ثمرا، فأصابته جائحة، فلا يأخذ منْ مال أخيه شيئًا، علام يأخذ أحدكم، منْ مال أخيه المسلم؟ "، وهذا صريح فِي الحكم، فلا يعدل عنه. قَالَ الشافعيّ: لم يثبت عندي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أَعْدُهُ، ولو كنت قائلا بوضعها، لوضعتها فِي القليل والكثير.
قلنا: الْحَدِيث ثابت، رواه الأئمة، منهم الإِمام أحمد، ويحيى بن معين، وعلي بن حرب، وغيرهم، عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر، ورواه مسلم فِي "صحيحه" وأبو داود فِي "سننه"، وابن ماجه، والنسائيّ، وغيرهم. ولا حجة لهم فِي حديثهم، فإن فعل الواجب خير، فإذا تألى أن لا يفعل الواجب، فقد تألى ألا يفعل خيرا، فأما الإجبار فلا يفعله النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، بمجرد قول المدعي، منْ غير إقرار منْ البائع، ولا حضور، ولأن التخلية ليست بقبض تام، بدليل ما لو تلفت بعطش، عند بعضهم، ولا يلزم منْ إباحة التصرف تمام القبض، بدليل المنافع فِي الإجارة، يباح التصرف فيها، ولو تلفت كانت منْ ضمان المؤجر، كذلك الثمرة، فإنها فِي شجرها
(١) هَذَا الْحَدِيث الصحيح أنه مرسل، كما قَالَ الشافعيّ رحمه الله تعالى، وَقَدْ روي موصولًا بذكر عائشة رضي الله تعالى عنها، إلا أنه منْ رواية حارثة بن أبي الرجال، وهو ضعيف، انظر ما كتبه البيهقيّ رحمه الله تعالى فِي "السنن الكبرى" ٥/ ٣٠٥.