يَخرُصها فِي الصدقة، وهاتان الصورتان منْ العرايا لا يبيع فيهما. انتهى "فتح" ٥/ ١٣٤ - ١٣٦. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم العرايا:
ذهب أكثر أهل العلم إلى إباحتها، منهم: مالك، وأهل المدينة، والأوزاعي، وأهل الشام، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يحل بيعها؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن بيع المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالثمر"، متَّفقٌ عليه، ولأنه يبيع الرطب بالتمر، منْ غير كيل فِي أحدهما فلم يجز، كما لو كَانَ عَلَى وجه الأرض، أو فيما زاد عَلَى خمسة أوسق.
واحتجّ الجمهور بالحديث المتّفق عليه: "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- رخص فِي العرايا، فِي خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق"، فقد رواه جماعة منْ الصحابة: أبو هريرة، وزيد بن ثابت، وسهل بن أبي حثمة، وغيرهم.
قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: خرجه أئمة الْحَدِيث فِي كتبهم، وحديثهم فِي سياقه: "إلا العرايا"، كذلك فِي المتفق عليه، وهذه زيادة يجب الأخذ بها، ولو قُدِّرَ تعارضُ الحديثين وجب تقديم حديثنا؛ لخصوصه، جمعا بين الحديثين، وعملًا بكلا النصين.
وَقَالَ ابن المنذر: الذي نهى عن المزابنة، هو الذي أرخص فِي العرايا، وطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى، والقياس لا يُصار إليه مع النص، مع أن فِي الْحَدِيث أنه أرخص فِي العرايا، والرخصة استباحة المحظور، مع وجود السبب الحاظر، فلو منع وجود السبب منْ الاستباحة، لم يبق لنا رخصة بحال. انتهى "المغني" ٦/ ١١٩ - ١٢٠.
وَقَالَ فِي "الفتح" -بعد أن أورد صور العرايا المذكورة فِي المسألة السابقة-: وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعيّ، والجمهور، وقصر مالك العرية فِي البيع عَلَى الصورة الثانية، وقصرها أبو عبيد عَلَى الصورة الأخيرة، منْ صور البيع، وزاد أنه رُخّص لهم أن يأكلوا الرطب، ولا يشتروه لتجارة، ولا ادّخار.
ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها، وقصر العرية عَلَى الهبة، وهو أن يُعرِي الرجل تمر نخلة منْ نخله، ولا يسلم ذلك له، ثم يبدو له فِي ارتجاع تلك الهبة، فرُخص له أن يحتبس ذلك، ويعطيه بقدر ما وهبه له منْ الرطب، بخرصه تمرا، وحمله عَلَى ذلك أخذُه بعموم النهي عن بيع الثمر بالتمر.
وتُعُقب بالتصريح باستثناء العرايا، فِي حديث ابن عمر، كما تقدم، وفي حديث غيره. وحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان، منْ أصحابهم: أن معنى الرخصة، أن الذي