وُهِبت له العرية لم يملكها؛ لأن الهبة لا تُملك إلا بالقبض، فلما جاز له أن يُعطي بدلها تمرا، وهو لم يملك المبدل منه، حَتَّى يستحق البدل، كَانَ ذلك مستثنى، وكان رخصة. وَقَالَ الطحاوي: بل معنى الرخصة فيه: أن المرء مأمور بإمضاء ما وعد به، ويعطي بدله، ولر لم يكن واجبا عليه، فلما أُذن له أن يحبس ما وعد به، ويعطي بدلا، ولا يكون فِي حكم منْ أخلَف وعده، ظهر بذلك معنى الرخصة، واحتج لمذهبه بأشياء، تَدُلُّ عَلَى أن العرية العطية، ولا حجة فِي شيء منها؛ لأنه لا يلزم منْ كون أصل العرية العطية، أن لا تُطلق العرية شرعا عَلَى صور أخرى.
قَالَ ابن المنذر: الذي رخص فِي العرية، هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر، فِي لفظ واحد، منْ رواية جماعة منْ الصحابة، قَالَ: ونظير ذلك: الإذنُ فِي السَّلَم، مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبع ما ليس عندك"، قَالَ: فمن أجاز السلم، مع كونه مستثنى منْ بيع ما ليس عندك، ومنع العرية، مع كونها مستثناة منْ بيع الثمر بالتمر، فقد تناقض، وأما حملهم الرخصة عَلَى الهبة، فبعيد مع تصريح الْحَدِيث بالبيع، واستثناء العرايا منه، فلو كَانَ المراد الهبة، لما استثنيت العرية منْ البيع، ولأنه عبر بالرخصة، والرخصة لا تكون إلا بعد ممنوع، والمنع إنما كَانَ فِي البيع، لا الهبة، وبأن الرخصة قُيِّدت بخمسة أوسق، أو ما دونها، والهبة لا تتقيد؛ لأنهم لم يفرقوا فِي الرجوع فِي الهبة، بين ذي رحم وغيره، وبأنه لو كَانَ الرجوع جائزا، فليس إعطاؤه بالتمر بدل الرطب، بل هو تجديد هبة أخرى، فإن الرجوع لا يجوز، فلا يصح تأويلهم. انتهى "فتح" ٥/ ١٣٤ - ١٣٧.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين لك مما ذكر أن الحقّ هو ما عليه الجمهور منْ جواز بيع العرايا؛ لرضوح أدلّته، وتبيّن لك أيضًا أن التأويلات التي ذكرها الحنفيّة لأحاديث العرايا كلها باطلة؛ لمعارضتها النصوص الصريحة. قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى بعد أن ذكر مذهب الحنفيّة فِي تأويل أحاديث العرايا: ما نصّه: وهذا المذهب إبطال لحديث العريّة منْ أصله، فيجب اطّراحه، وذلك أن حديث العرية تضمّن أنه بيعٌ مرخّصٌ فيه فِي مقدار مخصوص، وأبو حنيفة يُلغي هذه القيود الشرعيّة. انتهى "المفهم" ٤/ ٣٩٤.
والحاصل أن الواجب هو الأخذ بما دلّت عليه النصوص الصريحة "الصحيحة، وإلغاء ما خالفها منْ الآراء، التي لا تعتمد إلا عَلَى الأدلة القياسية، ولقد تكرّر إنشاد قول القائل: