(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي النهي عن بيع الطعام قبل القبض:
اختلفوا فِي هذه المسألة عَلَى سبعة أقوال:
(القول الأول): اختصاص ذلك بالمطعومات، كما هو مقتضى الْحَدِيث، فأما غيره، فيجوز بيعه قبل قبضه، وهذا مذهب مالك، وحَكَى عنه ابن عبد البرّ استثناء أمرين منْ المطعوم يجوز بيعهما قبل القبض:
[أحدهما]: الماء، وحكى ابن حزم عنه فِي الماء روايتين.
[الأمر الثاني]: الطعام المشترى جزافًا، فالمشهور منْ مذهب مالك جواز بيعه قبل القبض، وبه قَالَ الأوزاعيّ، ثم قَالَ: ولا أعلم أحدًا تابع مالكًا منْ جماعة فقهاء الأمصار عَلَى تفرقته بين ما اشتُري جِزافًا منْ الطعام، وبين ما اشتُري منه كيلاً إلا الأوزاعيّ، فإنه قَالَ: منْ اشترى طعامًا جزافًا، فهلك قبل القبض فهو منْ المشتري، وإن اشتراه مكايلةً، فهو منْ البائع، وهو نصّ قول مالك، وَقَدْ قَالَ الأوزاعيّ: منْ اشترى ثمرة لم يجز له بيعها قبل القبض، وهذا تناقض، ثم استدلّ ابن عبد البرّ لمالك برواية القاسم، عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نهى أن يبيع أحدٌ طعامًا اشتراه بكيل حَتَّى يستوفيه"، قَالَ: فقوله: "بكيل" دليل عَلَى أن ما خالفه بخلافه.
وتُعُقّب بأن الرويات الآتية فِي نهي الَّذين يبتاعون الطعام جزافًا عن بيعه حَتَّى ينقلوه منْ مكانه صريحٌ فِي الرّدّ عَلَى منْ جوّز بيع الطعام قبل قبضه، إذا كَانَ اشتراه جزافًا. والله تعالى أعلم.
(القول الثاني): اختصاص ذلك بالمطعوم، سواء اشتُري جزافًا، أو مقدّرًا بكيل، أو وزن، أو غيرهما، وبه قَالَ بعض المالكيّة، وحكاه عن مالك، واختاره أبو بكر الوقار، وصححه أبو عمرو بن الحاجب، وحكاه ابن عبد البرّ عن أحمد، وأبي ثور، قَالَ: وهو الصحيح عندي؛ لثبوت الخبر بذلك، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وعمل أصحابه، وعليه جمهور أهل العلم، قَالَ: وحجّتهم عموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "منْ ابتاع طعامًا"، لم يقل: جزافًا, ولا كيلاً، بل ثبت عنه فيمن ابتاع طعامًا جزافًا أن لا يبيعه حَتَّى ينقله، ويقبضه، قَالَ: وضعّفوا الزيادة فِي قوله: "طعاما بكيل".