(القول الثالث): اختصاص ذلك بما اشتُري مقدّرًا بكيل، أو وزن، أو ذرع، أو عدد، سواء كَانَ مطعومًا، أم لا؟ فإن اشتُري بغير تقدير جاز بيعه قبل قبضه، وهذا هو المشهور عن أحمد، كما قَالَ الشيخ مجد الدين ابن تيميّة فِي "المحرّر"، وَقَالَ ابن عبد البرّ: رُوي عن عثمان بن عفّان، وسعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ، والحكم بن عُتيبة، وحمّاد بن أبي سُليمان، وبه قَالَ إسحاق بن راهويه، ورُوي عن أحمد بن حنبل، والأول أصحّ عنه. انتهى. والمعتمد فِي ذلك قول ابن تيميّة، فإنه أعرف بمذهبه. قَالَ ابن عبد البرّ: وحجتهم أن الطعام المنصوص عليه أصله الكيل، أو الوزن، فكلّ مكيل، أو موزون، فذلك حكمه.
وتُعُقّب بأن النهي الوارد عن بيع المشترَى جزافًا قبل قبضه يردّ هَذَا، كما تقدّم بيانه. وعن أحمد رواية أخرى: أن صبر المكيل والموزون خاصّة كبيعهما كيلاً، ووزنًا.
(القول الرابع): طرد ذلك فِي جميع الأشياء، المطعوم، وغيره، والمقدّر، وغيره، فلا يجوز بيعها قبل قبضها، إلا العقار، وبهذا قَالَ أبو حنيفة، وأبو يوسف.
(القول الخامس): منع المبيع قبل القبض مطلقًا، حَتَّى فِي العقار، وبهذا قَالَ الشافعيّ، ومحمد بن الحسن، وهو روايةٌ عن أحمد، وحكاه ابن عبد البرّ عن عبد الله ابن عباس، وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-، وسفيان الثوريّ، وسفيان بن عُيينة، ويدلّ لذلك أن ابن عبّاس رضي الله عنهما، لَمّا روى عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- "أنه نهى عن بيع الطعام حَتَّى يُستوفَى"، قَالَ: ولا أحسب كلّ شيء إلا مثله، رواه الأئمة الستّة، وهذا لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم:"وأحسب كلّ شيء مثله"، وفي لفظ:"وأحسب كلّ شيء بمنزلة الطعام"، وفي لفظ له:"حَتَّى يكتاله"، وكذلك قَالَ جابر -رضي الله عنه- أي أن غير الطعام مثله، قَالَ ابن عبد البرّ: فدلّ عَلَى أنهما فَهِما عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- المراد والمغزى. وعن حكيم بن حِزام -رضي الله عنه- قَالَ: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعًا، فما يحلّ لي منها، وما يحرم؟ قَالَ:"إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حَتَّى تقبضه"، رواه النسائيّ باختلاف فِي إسناده، ومتنه، وصححه ابن حزم، وَقَالَ ابن عبد البرّ: هَذَا الإسناد، وإن كَانَ فيه مقالٌ، ففيه لهذا المذهب استظهار. وروى أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمرو، قَالَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحلّ بيعٌ وسلف، ولا بيع ما لم يُضمن، ولا بيع ما ليس عندك"، وهو حديث صحيح، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى أن تباع السَّلَعُ حيث تُشترى حَتَّى يحوزها الذي اشتراها إلى رحله"، رواه الحاكم، وَقَالَ: صحيح عَلَى شرط مسلم، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق.
فهذه الأحاديث حجة لهذا المذهب، وللذي قبله إلا أن صاحب المذهب الذي قبله