لكن ذكر محمد مرتضى الزبيديّ فِي "عقود الجواهر المنيفة فِي أدلة مذهب الإِمام أبي حنيفة" ص ٢٢٥: عن أبي حنيفة، عن محمد بن قيس: أن رجلاً منْ ثقيف، يكنى أبا عامر، كَانَ يُهدي إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فِي كلّ عام راوية منْ خمر، فأهدى إليه فِي العام الذي حُرّمت الخمر راوية خمر، كما كَانَ يُهديها، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا عامر إن الله تعالى حرّم الخمر، فلا حاجة لنا فِي خمرك"، فَقَالَ رجلٌ: خذها، وبعها، واستعن بثمنها عَلَى حاجتك، قَالَ:"إن الله تعالى حرّم شربها، وحرّم بيعها، وأكل ثمنها"، كذا رواه الحسن بن زياد عنه. انتهى.
فإن صحّ هَذَا، يحتمل أن يكون فِي واقعة أخرى، أو يُحمل عَلَى أن الرجل أمره ببيعها، ثم سارّ هو غلامه بذلك، فنهاه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عنه. والله تعالى أعلم.
وقوله (وَلَمْ أَفْهَمْ مَا سَارَّ) هكذا فِي نسخ "المجتبى"، ولفظ "الكبرى": "وكلمة معناها: فسارّ"،، والظاهر أن "ما" هنا مصحّفة منْ الفاء، والصواب "ولم أفهم فسارّ": أي لم أفهم لفظة "فسارّ"(كَمَا أَرَدْتُ) أي كما أحبّ أن أحفظه بالتحقيق والتأكّد، بل التبس عليّ، ولعلّ ذلك لكثرة الزحام، أو نحوه. والله تعالى أعلم. (فَسَأَلْتُ) أي سألت بعض الحاضرين عن هذه اللفظة، فأخبرني بها.
وهذا الكلام يحتمل أن يكون منْ المصنّف، ويحتمل أن يكون ممن فوقه، والظاهر الأول؛ لأنه لا يوجد عند غيره مع كثرة طرقه، فقد أخرجه مسلم، وأحمد، والدارميّ، بطرق مختلفة، ولم يُذكر فِي شيء منها. والله تعالى أعلم
وقوله (إِنْسَانًا إِلَى جَنْبِهِ) مفعول به لـ"سارّ" (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "بِمَ سَارَرْتَهُ؟) أي بأيّ شيء تحدّثت معه سرّا؟ (قَالَ) أي صاحب الراوية الذي سارّ ذلك الرجل (أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا) قَالَ القرطبيّ: "الذي" هنا كناية عن اسم الله تعالى، فكأنه قَالَ: إن الله حرّم شربها، وحرّم بيعها. ويحتمل أن يكون معناه: إن الذي اقتضى تحريم شربها، اقتضى تحريم بيعها، إذ لا تُراد إلا للشرب، فإذا حرّم الشرب لم يجز البيع؛ لأنه يكون منْ أكل المال بالباطل. وَقَدْ دلّ عَلَى صحة هَذَا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله إذا حرّم عَلَى قوم شيئًا حرّم عليهم ثمنه"، يعني شيئًا يؤكل، أو يشرب؛ لأن ذلك هو السبب الذي خرج عليه الْحَدِيث، ويُلحق به كلّ محرّم نجس, لا منفعة فيه، واختُلف فِي جواز بيع ما فيه منفعة منها، كالأزبال، والعذرة، فحرّم ذلك الشافعيّ، ومالك، وجلّ أصحابه، وأجاز ذلك الكوفيّون، والطبريّ، وذهب آخرون إلى إجازة ذلك للمشتري، دون البائع، ورأوا أن المشتري أعذر منْ البائع؛ لأنه مضطرّ إلى ذلك، روي ذلك عن بعض المالكيّة، وهي قولة عن الشافعيّ. انتهى "المفهم" ٤/ ٤٥٧ - ٤٥٨.