وخالف فِي ذلك الكوفيّون، وكثير منْ أهل البصرة، والمدنيين، والأوزاعيّ، وروي عن الزهريّ، وعمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-، فقالوا: يُبدأ بالمدّعى عليهم، متمسّكين فِي ذلك بالأصل الذي دلّ عليه قوله -صلى الله عليه وسلم- للمدّعي:"شاهداك، أو يمينه"، وبأنه قد رُوي هَذَا الْحَدِيث منْ طرق، ذكرها أبو داود، والنسائيّ، ذكر فيها أنه -صلى الله عليه وسلم- طالب المدّعين بالبيّنة، فقالوا: ما لنا بيّنة، فَقَالَ:"فتحلف لكم يهود خمسين يمينًا"، وهذا هو الأصل المقطوع به فِي باب الدعاوي الذي نبّه الشرع عَلَى حكمته بقوله:"لو أُعطي النَّاس بدعاويهم لاستحلّ رجالٌ دماء رجال، وأموالهم، ولكن البيّنة عَلَى المدّعي، واليمين عَلَى منْ أنكر"، متّفقٌ عليه.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن الصحيح المشهور المعروف منْ حديث حويّصة، ومُحيّصة تبدئة المدّعين بالأيمان، وهي رواية الأئمة الحفّاظ بالطرق المسندة المستفيضة، وما ذكروه مما رواه أبو داود، والنسائيّ مراسيل، وغير معروفة عند المحدّثين، وليست مما تُعارض بها الطرق الصحاح، فيجب ردّها بذلك.
وأجابوا عن التمسّك بالأصل بأن هَذَا الحكم أصل بنفسه؛ لحرمة الدماء، ولتعذر إقامة البينة عَلَى القتل فيها غالبا، فإن المقاصد للقتل يقصد الخلوة، والْغِيلة، بخلاف سائر الحقوق، وبشهدات الروايات الصحيحة لهذا الأصل الخاصّ بهذا الحكم الخاصّ، وبقي ما عداه عَلَى ذلك الأصل الآخر، ثم ليس ذلك خروجًا عن ذلك الأصل بالكلّيّة، وذلك أن المدعَى عليه، إنما كَانَ القول قوله؛ لقوة جانبه بشهادة الأصل له بالبراءة مما ادُّعِيَ عليه، وذلك المعنى موجود هنا، فإنه إنما كَانَ القول قولَ المدّعين؛ لقوة جانبهم باللَّوث الذي يشهد لهم بصدقهم، فقد أعملنا ذلك الأصل، ولم نطرحه بالكليّة. انتهى "المفهم" ٥/ ١٠ - ١١.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح هو القول بأنه يُبدأ فِي القسامة بأيمان أولياء المقتول، ثم تردّ عَلَى أولياء القاتل، لقوّة حجته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): فِي اختلاف أهل العلم فِي شرط ثبوت القسامة:
[اعلم]: اتفقوا كلهم عَلَى أنها لا تجب بمجرد دعوى الأولياء، حَتَّى يقترن بها شبهة، يغلب عَلَى الظن الحكم بها، واختلفوا فِي تصوير الشبهة عَلَى سبعة أمور، وَقَدْ ذكرها القرطبيّ، فِي "المفهم"، وملخّصها ما يلي:
[الأول]: أن يقول المريض: دَمِي عند فلان، أو ما أشبه ذلك، ولو لم يكن به أثر، أو جرح، فإن ذلك يوجب القسامة عند مالك، والليث، ولم يقل به غيرهما، واشترط