قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندى الأرجح ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني؛ لصحة الأحاديث به، فإن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه الأول حسنٌ، كما قَالَ الترمذيّ، والثاني صحيح، كما سبق فِي تخريج حديث الباب، وكذلك أثر عمر -رضي الله عنه- صحيح، وأما حديث الزهريّ عن السائب بن يزيد، فضعيفٌ، لا يعارض الأحاديث الصحيحة، فتبصر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي دية شبه العمد:
(اعلم): أن الخلاف فِي أسنان دية شبه العمد، كالخلاف فِي دية العمد، وَقَدْ سبق الكلام فِي ذلك فِي المسألة الماضية، واخلفوا هنا فِي أمرين:
[أحدهما]: أنه ذهب طائفة إلى أنها عَلَى العاقلة، وبه قَالَ الشعبي، والنخعي، والحكم، والشافعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وابن المنذر.
وذهبت طائفة إلى أنها عَلَى القاتل فِي ماله، وبه قَالَ ابن سيرين، والزهري، والحارث العكلي، وابن شُبْرُمة، وقتادة، وأبو ثور؛ لأنها مُوجَبُ فعلٍ قَصدَه، فلم تحمله العاقلة، كالعمد المحض، ولأنها دية مغلظة، فأشبهت دية العمد، وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك؛ لأن شبه العمد عنده منْ باب العمد.
واحتجّ الأولون بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتّفق عليه، قَالَ:"اقتتلت امرأتان منْ هذيل، فرَمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما فِي بطنها، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدية المرأة عَلَى عاقلتها".
ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصا فوجبت ديته عَلَى العاقلة كالخطإ، ويخالف العمد المحض؛ لأنه يُغَلَّظ منْ كل وجه؛ لقصده الفعل، وإرادته القتل، وعمدُ الخطإ يغلظ منْ وجه، وهو قصده الفعل، ويُخَفَّف منْ وجه، وهو كونه لم يُرد القتل، فاقتضى تغليظها منْ وجه، وهو الأسنان، وتخفيفها منْ وجه، وهو حمل العاقلة لها، وتأجيلها، قَالَ ابن قُدامة: ولا أعلم فِي أنها تجب مؤجلة خلافا بين أهل العلم، ورُوي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عباس رضي والله عنهم، وبه قَالَ الشعبي، والنخعي، وقتادة، وأبو هاشم، وعُبيد الله بن عمر، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وَقَدْ حُكي عن قوم منْ الخوارج، أنهم قالوا: الدية حالّة؛ لأنها بدل متلف، ولم ينقل إلينا ذلك عمن يُعَدُّ خلافه خلافا. أفاده فِي "المغني" ١٢/ ١٥ - ١٦.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح بما ذُكر أن الحقّ وجوب الدية عَلَى