للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح، فهو أولى بأن يُعمل به، وبأنه معارِضٌ للقواعد القطعية، فِي تحريم مال المسلم، بغير إذنه، فلا يُلتفت إليه. ومنهم منْ جمع بين الحديثين بوجوه منْ الجمع، منها: حمل الإذن عَلَى ما إذا علم طيب نفس صاحبه، والنهي عَلَى ما إذا لم يعلم، ومنها: تخصيص الإذن بابن السبيل، دون غيره، أو بالمضطرّ، أو بحال المجاعة مطلقا، وهي متقاربة. وحكى ابن بطال عن بعض شيوخه: أن حديث الإذن كَانَ فِي زمنه -صلى الله عليه وسلم-، وحديث النهي أشار به إلى ما سيكون بعده منْ التشاح، وترك المواساة.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الحمل فيه نظرٌ لا يخفى.

ومنهم منْ حمل حديث النهي عَلَى ما إذا كَانَ المالك، أحوج منْ المارّ؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فِي سفر، إذ رأينا إبلاً، مصرورةً، فثُبْنا إليها، فَقَالَ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه الإبل لأهل بيت منْ المسلمين، هو قوتهم، ويُمنهم بعد الله، أَيَسُرُّكم لو رجعتم إلى مزاودكم، فوجدتم ما فيها قد ذُهِب به، أتُرَون ذلك عدلاً؟ "، قلنا: لا، قَالَ: "فإن هَذَا كذلك"، قلنا: أفرأيتَ إن احتجنا إلى الطعام، والشراب؟، قَالَ: "كل، ولا تحمل، واشرب، ولا تحمل". أخرجه أحمد، وابن ماجه، واللفظ له، وفي حديث أحمد: "فابتدرها القوم ليحلُبُوها"، قالوا فيحمل حديث الإذن عَلَى ما إذا لم يكن المالك محتاجا، وحديث النهي عَلَى ما إذا كَانَ مستغنيا.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المذكور فِي سنده الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، وسليط بن عبد الله الطهويّ مجهول. والله تعالى أعلم.

ومنهم منْ حمل الإذن عَلَى ما إذا كانت، غير مَصرُورة، والنهي عَلَى ما إذا كانت مصرورة؛ لهذا الْحَدِيث، لكن وقع عند أحمد فِي آخره: "فإن كنتم لابُدّ فاعلين، فاشربوا، ولا تحملوا"، فدلّ عَلَى عموم الإذن فِي المصرورة وغيره، لكن بقيد عدم الحمل، ولابُدّ منه. واختار ابن العربيّ الحمل عَلَى العادة، قَالَ: وكانت عادة أهل الحجاز، والشام، وغيرهم المسامحة فِي ذلك، بخلاف بلدنا، قَالَ: ورأى بعضهم أن مهما (١) كَانَ عَلَى طريق لا يُعدَل إليه، ولا يُقصد جاز للمار الأخذ منه، وفيه إشارة إلى قصر ذلك عَلَى المحتاج، وأشار أبو داود فِي "السنن" إلى قصر ذلك عَلَى المسافر فِي الغزو، وآخرون إلى قصر الإذن عَلَى ما كَانَ لأهل الذمة، والنهي عَلَى ما كَانَ


(١) هكذا نسخ "الفتح" التي عندي، والظاهر أن الأولى "أن ما كَانَ الخ"، فليُحرّر.