[أحدهما]: أنهم عملوه، وهم يجهلون المكروه فيه. [والثاني]: أنهم أقدموا عَلَى بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل عَلَى الآجل، فسمّوا جُهّالاً؛ لإيثارهم القليل عَلَى الراحة الكثيرة، والعافية الدائمة، فقد جعل الزجّاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة. وَقَدْ يقال: هما متلازمان.
والمقصود هنا أن كلّ عاص لله، فهو جاهل، وكلّ خائف منه فهو عالم، مطيع لله، وإنما يكون جاهلاً لنقص خوفه منْ الله؛ إذ لو تمّ خوفه منْ الله لم يَعصِ، ومنه قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار به جهلاً، وذلك لأن تصوّر المخوف يوجب الهرب منه، وتصوّر المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب منْ هَذَا، ولم يطلب هَذَا، دلّ عَلَى أنه لم يتصوّره تصوّرًا تامًا، ولكن قد يتصوّر الخبر عنه، وتصوّر الخبر، وتصديقه، وحفظ حروفه غير تصوّر المخبر عنه، وكذلك إذا لم يكن المتصوّر محبوبًا له، ولا مكروهًا، فإن الإنسان يصدّق بما هو مخوف عَلَى غيره، ومحبوب لغيره، ولا يورثه ذلك هربًا، ولا طلبًا، وكذلك إذا أُخبِر بما هو محبوبٌ له، ومكروه، ولم يكذّب المخبر، بل عرفه صدّقه، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصوّر ما أُخبر به، فهذا لا يتحرّك للهَرَب، ولا للطلب. وفي الكلام المعروف عن الحسن البصريّ، وُيروى مرسلاً عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "العلم علمان، فعلم فِي القلب، وعلم عَلَى اللسان، فعلم القلب هو العدم النافع، وعلم اللسان حجة الله عَلَى عباده". وَقَدْ أخرجا فِي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ:"مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجّة طعمها طيّب، وريحها طيّبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، طعمها صيّبٌ، ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيّبٌ، وطعمها مرٌ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة، طعمها مرٌ، ولا ريح لها". وهذا المنافق الذي يقرأ القرآن، يحفظه، ويتصوّر معانيه، وَقَدْ يصدّق أنه كلام الله، وأن الرسول حقّ، ولا يكون مؤمناً، كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وليسوا مؤمنين، وكذلك إبليس، وفرعون، وغيرهما، لكن منْ كَانَ كذلك، لم يكن حصل له منْ العلم التامّ، والمعرفة التامّة، فإن ذلك يستلزم العمل بموجبه، لا محالة، ولهذا صار يقال: لمن لم يعمل بعلمه: إنه جاهل، كما تقدّم.
وكذلك لفظ "العقل"، وإن كَانَ فِي الأصل مصدر عقل يعقل عقلاً -منْ باب ضرب- وكثير منْ النظَّار جعله منْ جنس العلوم، فلابدّ أن يُعتبر مع ذلك أنه علم يُعمل بموجبه، فلا يسمّى عاقلاً إلا منْ عرف الخير، فطلبه، والشرّ فتركه، ولهذا قَالَ