أصحاب النار:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: ١٠]، وَقَالَ عن المنافقين:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}[الحشر: ١٤]، ومن فعل ما يعلم أنه يضرّه، فمثل هَذَا ما له عقلٌ، فكما أن الخوف منْ الله يستلزم العلم به، فالعلم به يستلزم خشيته، وخشيته تستلزم طاعته، فالخائف منْ الله ممتثلٌ لأوامره، مجتنب لنواهيه، وهذا هو الذي قصدنا بيانه أوّلاً.
ويدلّ عَلَى ذلك أيضًا قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (١٢)} [الأعلى: ٩ - ١٢]، فأخبر أن منْ يخشاه يتذكّر، والتذكّر هنا مستلزم لعبادته، قَالَ الله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}[غافر: ١٣]، وَقَالَ:{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}[ق: ٨]، ولهذا قالوا فِي قوله تعالى:{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى: ١٠]: سيتعظ بالقرآن منْ يخشى الله، وفي قوله:{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}: إنما يتّعظ منْ يرجع إلى الطاعة، وهذا لأن التذكر التامّ يستلزم التأثّر بما تذكّره، فإن تذكّر محبوبًا طلبه، وإن تذكّر مرهوبًا هرب منه. ومنه قوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[البقرة: ٦]، وَقَالَ سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}[يس: ١١]، فنفى الإنذار عن غير هؤلاء مع قوله:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، فأثبت لهم الإنذار منْ وجه، ونفاه عنهم منْ وجه، فالإنذار هو الإعلام بالمخوف، فالإنذار مثل التعليم، والتخويف، فمن علّمته، فتعلّم، فقد تمّ تعليمه، وآخر يقول: علمته، فلم يتعلّم، وكذلك منْ خوفته، فخاف، فهذا هو الذي تمّ تخويفه، وأما منْ خُوِّف فمِا خاف، فلم يتم تخويفه، وكذلك منْ هديته فاهتدى، تمّ هداه، ومنه قوله تعالى:{هُدَى لّلِمُتَّقِينَ}، ومن هديته فلم يهتد، كما قَالَ تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} الآية [فصلت: ١٧]، فلم يتمّ هداه، كما تقول: قطعته فانقطع، وقطعته، فما انقطع. فالمؤثّر التامّ يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تامًّا، والفعل إذا صادف محلاً قابلاً تمّ، وإلا لم يتمّ، والعلم بالمحبوب يورث طلبه، والعلم بالمكروه يورث تركه، ولهذا يُسمّى هَذَا العلم: الداعي، ويقال: الداعي مع القدرة، يستلزم وجود المقدور، وهو العلم بالمطلوب المستلزم لإرادة المعلوم المراد، وهذا كلّه إنما يحصل مع صحّة الفطرة، وسلامتها، وأما مع فسادها، فقد يُحسّ الإنسان باللذيذ، فلا يجد له لذّة، بل يؤلمه، وكذلك يلتذّ بالمؤلم لفساد فطرته، والفساد يتناول القوّة العلميّة، والقوّة العمليّة جميعًا، كالممرور الذي يجد العسل مُرًّا، فإنه فسد نفس إحساسه، حَتَّى كَانَ يُحسّ به عَلَى خلاف ما هو عليه للمرّة التي