عنده: إني مؤمن، فقيل لابن مسعود -رضي الله عنه-: هَذَا يزعم أنه مؤمن، قَالَ: فسلوه أفي الجنّة هو، أو فِي النار؟ فسألوه، فَقَالَ: الله أعلم، فَقَالَ عبد الله: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية.
قَالَ ابن تيميّة: ويُستدلّ أيضًا عَلَى وجوب الاسثناء بقول عمر -رضي الله عنه-: منْ قَالَ: إنه مؤمن، فهو كافر، ومن زعم أنه فِي الجنة، فهو فِي النار، ومن زعم أنه عالم، فهو جاهل، ولما استدلّ المنازع بأن الاستثناء إنما يحتاج إليه لمستقبل يشكّ فِي وقوعه قَالَ: الجواب أن هنا مستقبلًا يُشكّ فِي وقوعه، وهو الموافاة بالإيمان، والإيمان مرتبط بعضه ببعض، فهو كالعبادة الواحدة.
قَالَ: فحقيقة هَذَا القول أن الإيمان اسم للعبادة منْ أول الدخول فيه إلى أن يموت عليه، فإذا انتقض تبيّن بطلان أولها، كالحدث فِي آخر الصلاة، والوطء فِي آخر الحج، والأكل فِي آخر النهار، وقول مؤمن عند الإطلاق يقتضي فعل الإيمان كله، كقول مصلّ، وصائم، وحاجّ، فهذا مأخذ القاضي، وَقَدْ ذكر بعد هَذَا فِي "المعتمد" مسألة الموافاة، وهي متّصلة بها، وهو أن المؤمن الذي علم الله أنه يموت كافرًا، وبالعكس، هل يتعلّق رضا الله، وسخطه، ومحبّته، وبغضه بما هو عليه، أو بما يوافي به، والمسألة متعققة بالرضا والسخط، هل هو قديم، أو محدث؟.
[والمأخذ الثاني]: أن الاسم عند الإطلاق يقتضي الكمال، وهذا غير معلوم للمتكلّم، كما قَالَ اْبو العالية (١): أدركت ثلاثين منْ أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاف عَلَى نفسه، لا يقول: إن إيماني كإيمان جبريل، فإخبار الرجل عن نفسه أنه كامل الإيمان خبر بما لا يعلمه، وهذا معنى قول ابن المنزل: إن المرجئة تقول: إن حسناتها مقبولة، وأنا لا أشهد بذلك، وهذا مأخذ يصلح لوجوب الاستثناء، وهذا المأخذ الثاني للقاضي، فإن المنازع احتجّ بأنه لما لم يجز الاستثناء فِي الإسلام، فكذلك فِي الإيمان. قَالَ: والجواب أن الإسلام مجرّد الشهادتين، وَقَدْ أتى بهما، والإيمان أقوال، وأعمال؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وسبعون بابا"، وهو لا يتحقّق كلّ ذلك منه.
[والمأخذ الثالث]: أن ذلك تزكية للنفس، وَقَدْ قَالَ الله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [النجم: ٣٢]، وهذا يصلح للاستحباب، وإلا فإخبار الرجل بصفته التي هو عليها جائز، وإن كَانَ مدحًا، وَقَدْ يصلح للإيجاب، قَالَ الأثرم فِي "السنّة": حدثنا أحمد بن
(١) هكذا فِي "مجموع الفتاوى"، والذي فِي "صحيح البخاريّ": وَقَالَ ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين منْ أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق عَلَى نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه عَلَى إيمان جبريل ومكائيل". انتهى.