قَالَ: والصواب معهم فِي ذلك -والله أعلم- لأن ما ذهبوا إليه أبقوا به لفظ الْحَدِيث عَلَى ظاهره، منْ غير تأويل، وهو أحسن منْ التأويل، ما لم يُعارض لظاهر اللفظ معارضٌ، ويشهد لما ذهبوا إليه أحوال الصحابة -رضي الله عنهم-، والسلف الصالح، وأهل المعاملات؛ لأنه قد حُكي عنهم أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة، فمن جملة ما حُكي فِي ذلك حديث بلال -رضي الله عنه- حين صنع به ما صنع فِي الرمضاء إكراهًا عَلَى الكفر، وهو يقول: أَحَدٌ أحدٌ، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وكذلك أيضًا عند موته أهله يقولون: واكرباه، وهو يقول: واطرباه.
غَدًا أَلْقَى الأَحِبَّهْ مُحَمَّدًا وَصَحْبَهْ
فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، وهي حلاوة الإيمان. ومنها حديث الصحابيّ الذي سُرق فرسه بليل، وهو فِي الصلاة، فرأى السارق حين أخذه، فلم يقطع لذلك صلاته، فقيل له فِي ذلك؟ فَقَالَ: ما كنت فيه أكبر منْ ذلك، وما ذاك إلا للحلاوة التي وجدها محسوسة فِي وقته ذلك. ومنها: حديث الصحابيّين اللذين جعلهما النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فِي بعض مغازيه ليلةً يحرُسان جيش المسلمين، فنام أحدهما، وقام الآخر يصليّ، فإذا الجاسوس منْ قبل العدوّ، وَقَدْ أقبل، فرآهما، فكبد الجاسوس القوس، ورمى الصحابيّ، فأصابه، فبقي عَلَى صلاته، ولم يقطعها، ثم رماه ثانيةً، فأصابه، فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثةً، فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه، وَقَالَ: لولا أني خِفتُ عَلَى المسلمين ما قطعت صلاتي. وما ذاك إلا لشدّة ما وجد فيها منْ الحلاوة، حَتَّى أذهبت عنه ما يجده منْ ألم السهام. انتهى.
وَقَالَ أيضًا: ما حاصله: إنما عبر بالحلاوة؛ لأن الله شبة الإيمان بالشجرة فِي قوله تعالى:{كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} الآية، فالكلمة الطيبة: هي كلمة الإخلاص، وهي أسّ الدين، وبها قوامه، فكلمة الإخلاص فِي الإيمان، كأصل الشجرة لابدّ منه أوّلاً، وأغصان الشجرة فِي الإيمان عبارة عما تضمّنته كلمة الإخلاص، منْ اتباع الأمر، واجتناب النهي، والزهر فِي الشجرة هو فِي الإيمان عبارة عما يحدث للمؤمن فِي باطنه منْ أفعال البر، وما ينبت فِي الشجرة منْ الثمرة هو فِي الإيمان عبارة عن أفعال الطاعات، وحلاوة الثمرة فِي الشجرة هي فِي الإيمان عبارة عن كماله، وعلامة كماله هو ما ذكره النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فِي هَذَا الْحَدِيث؛ لأن غاية فائدة الثمرة فِي تناهي حلاوة ثمرها، وكماله، ولهذا قَالَ تعالى:{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[إبراهيم: ٢٥]. انتهى (١).
(١) راجع "بهجة النفوس" للشيخ أبي جمرة رحمه الله تعالى ١/ ٢٦ - ٢٧.