[فإن قيل]: كيف لم تُقبَل شهادة سعد لجعيل بالإيمان، ولو شهد له بالعدالة لقُبِل منه، وهي تستلزم الإيمان؟.
[فالجواب]: أن كلام سعد -رضي الله عنه- لم يخرج مخرج الشهادة، وإنما خرج مخرج المدح له، والتوسل فِي الطلب لأجله، فلهذا نوقش فِي لفظه، حَتَّى ولو كَانَ بلفظ الشهادة، لما استلزمت المشورة عليه بالأمر الأولى رَدَّ شهادته، بل السياق يرشد إلى أنه قبل قوله فيه، بدليل أنه اعتذر إليه.
وفي "مسند محمد بن هارون الروياني"، وغيره، بإسناد صحيح إلى أبي سالم الجيشاني، عن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ له:"كيف ترى جعيلا؟ "، قَالَ: قلت: كشكله منْ النَّاس -يعني المهاجرين- قَالَ:"فكيف ترى فلانا؟ "، قَالَ: قلت: سيد منْ سادات النَّاس، قَالَ:"فجُعيل خير منْ ملء الأرض منْ فلان"، قَالَ: قلت: ففلان هكذا، وأنت تصنع به ما تصنع؟ قَالَ: إنه رأس قومه، فأنا أتالّفهم به"، فهذه منزلة جعيل المذكور عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كما ترى، فظهرت بهذا الحكمة فِي حرمانه، وإعطاء غيره، وأن ذلك لمصلحة التأليف، كما قررناه. انتهى "فتح" ١/ ١١٣ - ١١٤.
(حَتَّى أَعَادَهَا سَعْدٌ ثَلَاثًا) أي حَتَّى كرّر سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قوله: "يا رسول الله أعطيت فلانا الخ"، وأنثّ الضمير باعتبار أنها جُملٌ (وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "أَوْ مُسْلِمٌ) أي: بل هو مسلم (ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لأُعْطِي رِجَالاً) حُذف المفعول الثاني للتعميم: أي أيَّ عطاء (وَأَدَعُ) أي أترك (مَنْ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُمْ، لَا أُعْطِيهِ شَيْئًا) تأكيد لمعنى "وأدع" (مَخَافَةَ) منصوب عَلَى أنه مفعول لأجله، وهو مضاف إلى قوله (أَنْ يُكَبُّوا) بالبناء للمفعول، والواو ضمير الرجال الذين يُعطيهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، يقال: أكب الرجل: إذا أَطرق، وكبه غيره: إذا قلبه، وهذا عَلَى خلاف القياس؛ لأن الفعل اللازم، يتعدى بالهمزة، وهذا زيدت عليه الهمزة، فقصر، وَقَدْ ذكر البخاريّ هَذَا فِي "كتاب الزكاة"، فَقَالَ: يقال: أكب الرجلُ: إذا كَانَ فعله غير واقع عَلَى أحد، فإذا وقع الفعل، قلت: كبه، وكببته، وجاء نظير هَذَا فِي أحرف يسيرة، منها: أنسل ريشُ الطائر، ونسلته، وأنزفتِ البئرُ، ونزفتها، وحكى ابن الأعرابيّ فِي المتعدي: كبه، وأكبه معا. قاله فِي "الفتح". وفي "اللسان": وحكى ابن الأعرابيّ أكبّه، وأنشد [منْ الرجز]:
وكبّه لوجهه، فانكبّ: أي صرعه، وأكبّ هو عَلَى وجهه، وهذا منْ النوادر أن يقال: أفعلتُ أنا، وفعلتُ غيري، يقال: كبّ الله عدوّ المسلمين، ولا يقال: أكب. انتهى.