للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): فِي اختلاف أهل العلم فِي قبول حسنات الكافر بعد إسلامه: لقد أجاد الحافظ المحقّق ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ" حيث كتب بحثًا نفيسًا، تقدّم خلاصته، لكن لَمّا اشتمل فِي سياقه الطويل منْ التفصيل، والتحقيق أحببت إيراده هنا؛ تتميمًا للفائدة، وتكميلاً للعائدة، قَالَ رحمه الله تعالى:

إحسان الإسلام يُفسر بمعنيين: [أحدهما]: بإكمال واجباته، واجتناب محرّماته. ومنه الْحَدِيث المشهور المرويّ فِي "السنن": "منْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (١)، فكما حسن إسلامه بترك ما لا يعنيه، وفعل ما يَعنيه. ومنه حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي خرّجاه فِي "الصحيحين" أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سُئل أنؤاخذ بأعمالنا فِي الجاهليّة؟، فَقَالَ: "منْ أحسن فِي الإسلام لم يؤاخذ بما عمل فِي الجاهليّة، ومن أساء فِي الإسلام أُخذ بالأول، والآخر". فإن المراد بإحسانه فِي الإسلام فعل واجباته، والانتهاء عن محرماته، وبالإساءة فِي الإسلام: ارتكاب بعض محظوراته التي كانت تُرتكب فِي الجاهليّة.

وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- هَذَا، مع حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- الذي علقه البخاريّ هنا دليل عَلَى أن الإسلام إنما يُكفّر ما كَانَ قبله منْ الكفر، ولواحقه التي اجتنبها المسلم بإسلامه، فأما الذنوب التي فعلها فِي الجاهلية إذا أصرّ عليها فِي الإسلام، فإنه يؤاخذ بها، فإنه إذا أصرّ عليها فِي الإسلام لم يكن تائبًا منها، فلا يكفر عنه بدون التوبة منها. وَقَدْ ذكر طوائف منْ العلماء، منْ أصحابنا -الحنبلية- كأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، وغيره، وهو قول طائفة منْ المتكلّمين، منْ المعتزلة، وغيرهم، وهو اختيار الْحَلِيميّ. قَالَ ابن رَجَب: وَقَدْ وجدته منصوصًا عن الإمام أحمد، فنقل الميمونيّ فِي "مسائله" عن أحمد، قَالَ: بلغني عن أبي حنيفة أنه كَانَ يقول: لا يؤاخذ بما كَانَ فِي الجاهليّة، والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول فِي غير حديث: "إنه يؤاخذ"، يعني حديث شقيق، عن ابن مسعود، أراد: "إذا أحسنت فِي الإسلام". انتهى. وكذلك حكى الْجُوزجانيّ عن أهل الرأي أنهم قالوا: إن منْ أسلم، وهو مُصرّ عَلَى الكبائر كفّر الإسلام كبائره كلها، ثم أنكر ذلك عليهم، وجعله منْ جملة أقوال المرجئة.

وخالف فِي ذلك آخرون، وقالوا: بل يُغفر له فِي الإسلام كلُّ ما سبق منه فِي


(١) أخرجه الترمذيّ ٢٣١٧ وابن ماجه ٣٩٧٦ وراجع "علل ابن أبي حاتم" ٢/ ١٣٢، و" علل الدارقطنيّ" ٨/ ٢٥ - ٢٨ وَقَدْ تكلم ابن رَجَب عليه بتوسّع فِي كتابه الحافل "جامع العلوم والحكم" وبين أن الصواب فيه الإرسال.