الجاهليّة، منْ كفر، وذنب، وإن أصرّ عليها فِي الإسلام. وهذا قول كثير منْ المتكلّمين، والفقهاء، منْ الحنابلة، وغيرهم، كابن حامد، والقاضي، وغيرهما.
واستدلّوا بقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "الإسلام يهدِم ما كَانَ قبله"، أخرجه مسلم منْ حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه-.
وأجاب الأولون عنه بأن المراد أنه يَهدِم ما كَانَ قبله مما ينافيه الإسلام، منْ كفر، وشرك، ولواحق ذلك، مما يكون الإسلام توبة منه، وإقلاعًا عنه؛ جمعًا بينه وبين الحديثين المتقدّمين.
وأجاب الأولون بأن المراد يُغفر لهم ما سلف مما انتهوا عنه. وتأول بعض أهل القرن الثاني حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عَلَى أن إساءته فِي الإسلام ارتداده عنه إلى الكفر، فيؤاخذ بكفره الأول والثاني. ومنهم منْ حمله عَلَى إسلام المنافق. وهذا بعيدٌ جدًّا. ومتى ارتدّ عن الإسلام، أو كَانَ منافقًا، فلم يبق معه إسلام حَتَّى يُسِيىءَ فيه.
والاختلاف فِي هذه المسألة مبنيّ عَلَى أصول:
[أحدها]: أن التوبة منْ ذنب تصحّ مع الإصرار عَلَى غيره. وهذا قول جمهور أهل السنّة والجماعة، والخلاف فيه عن الإمام أحمد، لا يثبت، وَقَدْ تأوّل ما رُوي عنه فِي ذلك المحقّقون منْ أصحابه، كابن شَاقَلا، والقاضي فِي كتاب "المعتمد"، وابن عقيل فِي "فصوله". وأما المعتزلة، فخالفوا فِي ذلك، وَقَالَ منْ قَالَ منهم، كالجبّائيّ؛ بناء عَلَى هَذَا: إن الكافر لا يصح إسلامه، مع إصراره عَلَى كبيرة، كَانَ عليها فِي حال كفره. وهذا قول باطل، لم يوافقهم عليه أحدٌ منْ العلماء
[الأصل الثاني]: أن التوبة، هل منْ شرط صحّتها إصلاح العمل بعدها، أم لا؟، وفي ذلك اختلاف بين العلماء، وَقَدْ ذكره، ابن حامد منْ الحنبليّة، وأشار إلى بناء الخلاف فِي هذه المسألة عَلَى ذلك، والصحيح عنده، وعند كثير منْ العلماء أن ذلك ليس بشرط.
[والأصل الثالث]: أن بعض الذنوب قد يُعفى عنها بشرط اجتناب غيرها، فإن لم يحصل الشرط، لم يحصُل ما علّق عليه. وهذا مأخذ أبي بكر عبد العزيز منْ الحنابلة، وجعل منْ هَذَا أن الصغائر إنما تكفّر باجتناب الكبائر، فإن لم يجتنب الكبائر وقعت المؤاخذة بالصغائر والكبائر. وهذا فيه خلاف، وجعل منه أن النظرة الأولى يُعفى عنها بشرط عدم المعاودة، فإن أعاد النظرة أُخذ بالأولى والثانية.