[والأصل الرابع]: أن التوبة منْ الذنب هي الندم عليه بشرط الإقلاع عنه، والعزم عَلَى عدم العود إليه، فالكافر إذا أسلم، وهو مصرّ عَلَى ذنب آخر، صحّت توبته، مما تاب منه، وهو الكفر، دون الذنب الذي لم يتُب منه، بل هو مصرّ عليه. وأخرج النسائيّ حديث مالك الذي علّقه البخاريّ هنا، وزاد فِي أوله:"كتب الله له كل حسنة كَانَ أزلفها". وهذا يشبه قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لحكيم بن حزام -رضي الله عنه- لَمّا قَالَ له: أرأيت أُمورًا، كنت أتبرّر بها فِي الجاهليّة، هل لي منها منْ سيء؟ فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أسلمت عَلَى ما أسلفت منْ خير". أخرجه مسلم. وكلاهما يدلّ عَلَى أن الكافر إذا عمل حسنة فِي حال كفره، ثم أسلم، فإنه يُثاب عليها، ويكون إسلامه المتأخّر كافيًا له فِي حصول الثواب عَلَى حسناته السابقة منه قبل إسلامه. ورجّح هَذَا القول ابن بطّال، والقرطبيّ، وغيرهما، وهو مقتضى قول منْ قَالَ: إنه يُعاقب بما أصرّ عليه منْ سيئاته إذا أسلم، كما سبق، وحُكي مثله عن إبراهيم الحربيّ، ويدلّ عليه أيضًا أن عائشة رضي الله تعالى عنها لَمّا سألت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن ابن جُدْعان، وما كَانَ يصنعه منْ المعروف، هل ينفعه؟ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لم يقل يومًا قط: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". وهذا يدلّ عَلَى أنه لو قَالَ ذلك يومًا منْ الدهر، ولو قبل موته بلحظة لنفعه ذلك.
ومما يُستدلّ به أيضًا قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في مؤمن أهل الكتاب إذا أسلم:"إنه يؤتى أجره مرتين"، متّفق عليه، مع أنه لو وافى عَلَى عمله بكتابه الأول لكان حابطًا، وهذا هو اللائق بكرم الله، وجوده، وفضله.
وخالف فِي ذلك طوائف، منْ المتكلمين، وغيرهم، وقالوا: الأعمال فِي حال الكفر حابطة، لا ثواب لها بكلّ حال، وتأوّلوا هذه النصوص الصحيحة بتأويلات مستكرهة، مستبعدة. ولذلك (١) منْ كَانَ له عمل صالح، فعمل سيّئة أحبطته، ثم تاب، فإنه يعود إليه ثواب ما حُبط منْ عمله بالسيّئات. وَقَدْ ورد فِي هَذَا آثار عن السلف، قَالَ ابن مسعود -رضي الله عنه-: "عَبدَ اللهَ رجلٌ سبعين سنة، ثم أصاب فاحشة، فاحبط الله عمله، ثم أصابته زمانة، وأُقعد، فرأى رجلاً يتصدّق عَلَى مساكين، فجاء إليه، فأخذ منه رغيفًا، فتصدّق به عَلَى مسكين، فغفر الله له، وردّ عليه عمل سبعين سنة". أخرجه ابن المبارك فِي "كتاب البر والصلة". بل عود العمل هاهنا بالتوبة أولى؛ لأن العمل الأول كَانَ مقبولاً، وإنما طرأ عليه ما يُحبطه، بخلاف عمل الكافر قبل إسلامه. ومن كَانَ مسلمًا، وعمِل صالحًا فِي إسلامه، ثم ارتدّ، ثم عاد إلى الإسلام، ففي حبوط عمله الأول بالردّة خلاف مشهور، ولا يبعد أن
(١) قوله: "ولذلك" هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب: "وكذلك" بالكاف بدل اللام. والله تعالى أعلم.