قَالَ ابن دقيق العيد: إخبار الصحابيّ عن الأمر والنهي عَلَى ثلاث مراتب: [الأولى]: أن يأتي بالصيغة، كقوله: افعلوا، أو لا تفعلوا. [الثانية]: قوله: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا، ونهانا عن كذا، وهو كالمرتبة الأولى فِي العمل به، أمرا أو نهيا، وإنما نزل عنها؛ لاحتمال أن يكون ظنَّ ما ليس بأمر أمرا، إلا أن هَذَا الاحتمال مرجوح؛ للعلم بعدالته، ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة. [المرتبة الثالثة]: أُمِرنا، ونُهِينا، عَلَى البناء للمجهول، وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها؛ لاحتمال أن يكون الآمر غير النبيّ -صلى الله عليه وسلم-.
وإذا تقرر هَذَا فالنهي عن خاتم الذهب، أو التختم به، مختص بالرجال دون النِّساء، فقد نُقِل الإجماعُ عَلَى إباحته للنساء.
قَالَ الحافظ: وَقَدْ أخرج ابن أبي شيبة، منْ حديث عائشة، أن النجاشي أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- حليةِ فيها خاتم منْ ذهب، فأخذه، وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت ابنته، فَقَالَ:"تَحَلّيْ به".
قَالَ ابن دقيق العيد: وظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة، واستقر الأمر عليه. قَالَ عياض: وما نُقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، منْ تختمه بالذهب، فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه، فالناس بعده مجمعون عَلَى خلافه، وكذا ما رُوي فيه عن خبّاب، وَقَدْ قَالَ له ابن مسعود: أما آن لهذا الخاتم أن يُلقَى؟ فَقَالَ: إنك لن تراه عليّ بعد اليوم، فكأنه ما كَانَ بلغه النهي، فلما بلغه رجع، قَالَ: وَقَدْ ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه، كراهة تنزيه، لا تحريم، كما قَالَ مثل ذلك فِي الحرير، قَالَ ابن دقيق العيد: هَذَا يقتضي إثبات الخلاف فِي التحريم، وهو يناقض القول بالإجماع عَلَى التحريم، ولابد منْ اعتبار وصف كونه خاتما.
قَالَ الحافظ: التوفيق بين الكلامين ممكن، بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض، واستقر الإجماع بعده عَلَى التحريم. وَقَدْ جاء عن جماعة منْ الصحابة لبس خاتم الذهب، منْ ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة، منْ طريق محمد بن أبي إسماعيل، أنه رأى ذلك عَلَى سعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وصهيب، وذكر ستة، أو سبعة، وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا، عن حذيفة، وعن جابر بن سمرة، وعن عبد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد: نزعنا منْ يدي أبي أسيد خاتما منْ ذهب، وأغربُ ما ورد منْ ذلك ما جاء عن البراء الذي رَوَى النهي، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن أبي السفر، قَالَ: رأيت عَلَى البراء خاتما منْ ذهب، وعن شعبة، عن أبي إسحاق نحوه، أخرجه البغوي فِي "الجعديات"، وأخرج أحمد منْ طريق محمد بن مالك، قَالَ: رأيت عَلَى البراء خاتما منْ ذهب، فَقَالَ: قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسما،