ارتفع، وانتفخ، قَالَ القرطبيّ: ويعني به مجلسًا رفيعا، يتلألأ نوراً، ويحتمل أن يكون عبّر به عن المنزلة الرفيعة المحمودة، ولذلك قَالَ:"عن يمين الرحمن". انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لا داعي للاحتمال الذي ذكره، بل الظاهر منْ معنى الْحَدِيث معنى صحيح، لا يحتاج إلى العدول عنه، فإن الله سبحانه وتعالى يكرمهم يوم القيامة بالجلوس عَلَى المنابر منْ نور؛ ليراهم الخلق، وُيعتَرَفَ بفضلهم، وعلوّ شأنهم عند ربّهم، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[البقرة: ١٠٥].
(عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ) قَالَ القرطبيّ: قَالَ ابن عرفة يقال: أتاه عن يمين: إذا أتاه منْ الجهة المحمودة. وَقَالَ المفسّرون فِي قوله تعالى:{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}[الواقعة: ٢٧] أي أصحاب المنزلة الرفيعة. وقيل: غير هَذَا فِي الآية. وَقَدْ شهد العقل والنقل أن الله تعالى منزّه عن مماثلة الأجسام، وعن الجوارح المركّبة منْ الأعصاب والعظام، وما جاء فِي الشريعة مما يوهم شيئًا منْ ذلك، فهو توسّعٌ، واستعارة حسب عادات مخاطباتهم الجارية عَلَى ذلك، إلى آخر ما ذكره القرطبيّ فِي تأويل معنى اليمين.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي طول به القرطبيّ كلامه فِي تأويل معنى اليمين غير صحيح، فإن اليمين بمعنى الجارحة لا يتوهّم عاقل أنها المقصودة فِي إطلاق اليمين لله سبحانه وتعالى، فإن منْ اعتقد أن لله سبحانه وتعالى ذاتًا، لا تُشبه الذوات، فكذلك يعتقد أن له صفات لا تشبه الصفات، فكما لا يعتقد أن ذاته مركبة منْ لحم، وعظم، ونحو ذلك، كذلك لا يعتقد أن يمينه سبحانه وتعالى جارحة مركبة منْ لحم، وعظم، وعصب، ونحوه، بلا فرق، وَقَدْ تقدّم لنا غير مرّة أن مذهب سلف الأمة، منْ الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأهل الْحَدِيث قاطبة إثبات جميع الصفات التي وردت فِي القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة, عَلَى ظاهرها، منزّهين الله تعالى عن مشابهة خلقه له، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، فاسلك سبيلهم، فإنه الصراط المستقيم، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله:(الَّذِينَ) خبر لمحذوف: أي هم الذين (يَعْدِلُونَ) بكسر الدال، منْ العدل: وهو القصد فِي الأمور، وهو خلاف الجور، يقال: عَدَلَ فِي أمره عَدْلاً، منْ باب ضرب، وعدل عَلَى القوم عَدْلاً أيضًا. قاله فِي "المصباح"(فِي حُكْمِهِمْ) أي فِي الحكم الذي يحكمون به للناس، أو عليهم (وَأَهْلِيهِمْ) بالجرّ عطفًا عَلَى ما قبله: أي يعدِلون فِي أهليهم، بمعنى أنهم يقمون تجاههم بما أوجب الله تعالى عليهم فيهم، فِي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} الآية [التحريم: ٦]، فيعلمونهم دينهم،