منْ جنسه، فإذا قضى بالحق، وأعطاه لمستحقه، ثبت له أجر اجتهاده، وجرى له مثل أجر مستحق الحق، فلو كَانَ أحد الخصمين ألحن بحجته منْ الآخر، فقضى له والحق فِي نفس الأمر لغيره، كَانَ له أجر الاجتهاد فقط، ولا يؤاخذ بإعطاء الحق لغير مستحقه؛ لأنه لم يتعمد ذلك، بل وزر المحكوم له قاصر عليه، ولا يخفى أن محل ذلك أن يبذل وسعه فِي الاجتهاد، وهو منْ أهله، وإلا فقد يلحق به الوزر، إن أخَلّ بذلك. انتهى كلام ابن العربيّ بزيادة منْ كلام الحافظ فِي "الفتح" ٢٦٠. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي بيان شروط المجتهد:
قَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى: يشترط فِي القاضي ثلاثة شروط: [أحدها]: الكمال وهو نوعان: كمال الأحكام، وكمال الخلقة:
أما كمال الأحكام فيعتبر فِي أربعة أشياء: أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا، وحكي عن ابن جرير أنه لا تشترط الذكورية, لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية، فيجوز أن تكون قاضية، وَقَالَ أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية فِي غير الحدود؛ لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه، ولنا قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما أفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة"، ولأن القاضي يحضره محافل الخصوم والرجال، ويحتاج فيه إلى كمال الرأي، وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي، ليست أهلا للحضور فِي محافل الرجال، ولا تقبل شهادتها، ولو كَانَ معها ألف امرأة مثلها، ما لم يكن معهن رجل، وَقَدْ نبه الله تعالى عَلَى ضلالهن ونسيانهن، بقوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}[البقرة: ٢٨٢] ولا تصلح للإمامة العظمى، ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يُوَلّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد منْ خلفائه، ولا منْ بعدهم امرأة قضاء، ولا ولاية بلد فيما بلغنا, ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا.
وأما كمال الخلقة: فأن يكون متكلما، سميعا، بصيرًا؛ لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع النَّاس إشارته، والأصم لا يسمع قول الخصمين، والأعمى لا يعرف المدعي منْ المدعى عليه، والمقر له منْ المقر، والشاهد منْ المشهود له. وَقَالَ بعض أصحاب الشافعيّ: يجوز أن يكون أعمى؛ لأن شعيبا عليه السلام كَانَ أعمى، ولهم فِي الأخرس الذي تفهم إشارته وجهان. ولنا أن هذه الحواس تؤثر فِي الشهادة، فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع، وهذا لأن منصب الشهادة دون منصب القضاء، والشاهد يشهد فِي أشياء يسيرة، يحتاج إليها فيها، وربما أحاط بحقيقة علمها، والقاضي ولايته عامة، ويحكم فِي قضايا النَّاس عامة، فإذا لم يقبل منه الشهادة، فالقضاء أولى، وما