والمحكم والمتشابه، والمجمل والمفسر، والناسخ والمنسوخ، فِي الآيات المتعلقة بالأحكام، وذلك نحو خمسمائة، ولا يلزمه معرفة سائر القرآن. أما السنة فيحتاج إلى معرفته ما يتعلق منها بالأحكام، دون سائر الأخبار، منْ ذكر الجنة والنار والرقائق، ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف منْ الكتاب، ويزيد معرفة التواتر والآحاد، والمرسل والمتصل، والمسند والمنقطع، والصحيح والضعيف، ويحتاج إلى معرفة ما أُجمع عليه وما اختُلف فيه، ومعرفة القياس وشروطه، وأنواعه، وكيفية استنباطه الأحكام، ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكرنا؛ ليتعرف به استنباط الأحكام منْ أصناف علوم الكتاب والسنة، وَقَدْ نص أحمد عَلَى اشتراط ذلك للفتيا والحكم فِي معناه.
[فإن قيل]: هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز اشتراطها؟. [قلنا]: ليس منْ شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها، وإنما يحتاج إلى أن يعرف منْ ذلك ما يتعلق بالأحكام، منْ الكتاب والسنة ولسان العرب، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة فِي هَذَا، فقد كَانَ أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما خليفتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووزيراه، وخير النَّاس بعده فِي حال إمامتهما يُسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه منْ السنة، يَسألا النَّاس فيُخْبَران، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة، فَقَالَ مالك فِي كتاب الله شيء، ولا أعلم لك فِي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا، ولكن ارجعي حَتَّى أسأل النَّاس، ثم قام، فَقَالَ: أنشد الله منْ يعلم قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فِي الجدة، فقام المغيرة بن شعبة، فَقَالَ: أشهد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها السدس. وسأل عمر عن إملاص المرأة، فأخبره المغيرة بن شعبة، أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قضى فيه بغرة. ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون فِي كتبهم، فإن هذه فروع فَرّعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد، فلا تكون شرطا له، وهو سابق عليها, وليس منْ شرط الاجتهاد فِي مسألة أن يكون مجتهدا فِي كل المسائل، بل منْ عرف أدلة مسألة، وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها، وإن جهل غيرها كمن يعرف الفرائض وأصولها, ليس منْ شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع، ولذلك ما منْ إمام إلا وَقَدْ توقف فِي مسائل، وقيل: منْ يجيب فِي كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم "لا أدري" أصيبت مقاتله. وحُكي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة، فَقَالَ فِي ست وثلاثين منها: لا أدري، ولم يُخرِجه ذلك عن كونه مجتهدا، وإنما المعتبر أصول هذه الأمور، وهو مجموع مدون فِي فروع الفقه وأصوله، فمن عرف ذلك، ورزق فهمه، كَانَ مجتهدا، له الفتيا، وولاية الحكم إذا وليه، والله أعلم. انتهى "المغني" ١٤/ ١٢ - ١٦ وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم.