قَالَ الشوكانيّ رحمه الله تعالى: قَالَ أبو عليّ الكرابيسي، صاحب الشافعيّ، فِي "كتاب أدب القضاء" له: لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافا، أن أحق النَّاس أن يقضي بين المسلمين منْ بان فضله، وصدقه، وعلمه، وورعه، وأن يكون عارفا بكتاب الله، عالما بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حافظا لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة، عالما بالوفاق والخلاف، وأقوال فقهاء التابعين، يَعرف الصحيح منْ السقيم يتتبع النوازل منْ الكتاب، فإن لم يجد ففي السنة، فإن لم يجد عَمِل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم، والمشاورة لهم، مع فضل، وورع، ويكون حافظا للسانه ونطقه وفرجه، فهما لكلام الخصوم، ثم لابد أن يكون عاقلا، مائلا عن الهوى، ثم قَالَ: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس عَلَى وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يُطلب منْ أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم. وَقَالَ المهلب: لا يكفي فِي استحباب القضاء أن يرى نفسه أهلا لذلك، بل أن يراه النَّاس أهلا له. وَقَالَ ابن حبيب، عن مالك: لابد أن يكون القاضي عالما عاقلا، قَالَ ابن حبيب: فإن لم يكن عِلمٌ فعقل وورع؛ لأنه بالورع يقف، وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجده، فإذا طلب العقل لم يجده. انتهى.
وتعقّبه الشوكانيّ، قائلاً: ماذا يصنع الجاهل العاقل عند ورود مشكلات المسائل، وغاية ما يفيده العقل التوقف عند كل خصومة ترد عليه، وملازمة سؤال أهل العلم عنها، والأخذ بأقوالهم، مع عدم المعرفة لحقها منْ باطلها، وما بهذا أمر الله عباده، فإنه أمر الحاكم أن يحكم بالحق، وبالعدل، وبالقسط، وبما أنزل، ومن أين لمثل هَذَا العاقل العاطل عن حلية الدلائل, أن يعرف حقية هذه الأمور؟ بل منْ أين له أن يتعقل الحجة إذا جاءته منْ كتاب أو سنة، حَتَّى يحكم بمدلولها؟ ثم قد عُرف اختلاف طبقات أهل العلم فِي الكمال والقصور، والإنصاف والاعتساف، والتثبت والاستعجال، والطيش والوقار، والتعويل عَلَى الدليل، والقنوع بالتقليد، فمن أين لهذا الجاهل العاقل معرفة العالي منْ السافل، حَتَّى يأخذ عنه أحكامه، وينيط به حَلَّه وإبرامه؟ فهذا شيء لا يُعرف بالعقل، باتفاق العقلاء، فما حالُ هَذَا القاضي إلا كحال منْ قَالَ فيه منْ قَالَ: