للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وكثيرًا ما أخلّ بهما المقيّد، ثم يتّخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها، كفعل المستقلّ بنصوص الشرع، وربّما اكتفى فِي الحكم بدليل إمامه، ولا يبحث عن معارض كفعل المستقلّ فِي النصوص، وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه إلى آخر كلامه.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله النوويّ فيه نظرٌ منْ وجوه:

[الأول]: قولهم: فقد المجتهد المستقلّ منْ دهر طويل قول لا برهان له، وهو نظير قول بعضهم: إن شرائط المجتهد التي ذكروها فِي هَذَا الباب لم توجد منذ أن نشأ الإِسلام إلى الآن إلا فِي الأئمة الأربعة، وهو كلام يكذّبه الواقع فِي كلّ عصر ومصر، فقد وُجد ممن يتّصف بمثل أوصافهم، كثيرون ممن عاصرهم، أو سبقهم، أو تأخر عنهم، وإنما ميزتهم أن أتباعهم أكثر منْ غيرهم.

[الثاني]: أن الشروط التي ذكرها النوويّ للمجتهد المقيّد هي الشروط المذكورة للمطلق إلا التي استثناها أخيرًا، وهي موجودة بكثرة فِي كثير منْ الأعصار عند كثير منْ أهل العلم.

[الثالث]: قوله: لا يتجاوز فِي أدلّته أصول إمامه قول لا يخفى فساده، فإن منْ كَانَ بهذه الرتبة لا يجوز له أن يقلّد أحدًا، دون شكّ، ولا ريب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قَالَ فِي محكم كتابه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] و [الأنبياء: ٧] فقد قسم النَّاس إلى قسمين: عالم، وجاهل، فأما العالم فواجبه العمل بعلمه، لا بعلم غيره، وأما الجاهل فواجبه أن يسأل أهل العلم، فيعمل بما أفتوه به، وهذا الشخص الذي وصفه النوويّ بهذه الأوصاف العلية لا أحد ممن له وعيٌ يقول: إنه منْ القسم الثاني، فوجب كونه منْ القسم الأول، فلا يجوز له أن يقلّد أحدًا غيره، بل يجب عليه العمل بعلمه.

[الرابع]: أن هَذَا التقسيم الذي ذكروه للمجتهد ليس قولَ أحد منْ علماء السلف، لا الإِمام الشافعيّ، ولا غيره منْ الأئمة، بل كانوا ينهون تلاميذهم الذين جعلهم المتأخرون مجتهدين فِي المذهب، كالمزنيّ، وغيره أن يقلّدوهم، كما هو معروف فِي سيرهم، وتراجمهم رحمهم الله تعالى.

[الخامس]: أن هَذَا الكلام مناقض لما ثبت فِي أصول الفقه منْ تعريف التقليد بأنه الأخذ بقول الغير منْ غير معرفة دليله، فإن منْ الواضح أن منْ وصفه النوويّ بهذه الصفات قد عرف أدلّة إمامه منطوقها، ومفهومها، واستطاع أن يستخرج منْ منصوصها ما لم ينصّ عليه إمامه، فكيف يسمّى هَذَا مقلّدا، هيهات هيهات.

[السادس]: أن منْ توفّرت فيه هذه الصفات التي ذكرها النوويّ للمقيّد حسب زعمه