فأشار البخاريّ إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- حكم فِي ابن وليدة زمعة بالظاهر، ولو كَانَ فِي نفس الأمر ليس منْ زمعة، ولا يسمى ذلك خطأ فِي الاجتهاد، ولا هو منْ موارد الاختلاف فِي ذلك، وسبقه إلى ذلك الشافعيّ، فإنه لَمّا تكلم عَلَى حديث الباب قَالَ: وفيه أن الحكم بين النَّاس يقع عَلَى ما يُسمع منْ الخصمين بما لفظوا به، وإن كَانَ يمكن أن يكون فِي قلوبهم غير ذلك، وأنه لا يُقضَى عَلَى أحد بغير ما لَفَظ به، فمن فعل ذلك فقد خالف كتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ومثل هَذَا قضاؤه لعبد بن زمعة بابن الوليدة، فلما رأى الشبه بَيِّنًا بعتبة، قَالَ:"احتجبي منه يا سودة". انتهى.
قَالَ الحافظ: ولعل السر فِي قوله: "إنما أنا بشر" امتثال قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}[الكهف: ١١٠]: أي فِي إجراء الأحكام عَلَى الظاهر، الذي يستوي فيه جميع المكلفين، فأُمر أن يحكم بمثل ما أمروا أن يحكموا به؛ ليتم الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد إلى الأحكام الظاهرة، منْ غير نظر إلى الباطن.
والحاصل أن هنا مقامين:[أحدهما]: طريق الحكم، وهو الذي كُلِّف المجتهد بالتبصر فيه، وبه يتعلق الخطأ والصواب، وفيه البحث. [والآخر]: ما يُبطنه الخصم، ولا يطلع عليه إلا الله، ومن شاء منْ رسله، فلم يقع التكليف به.
(ومنها): استُدِلَّ بالحديث لمن قَالَ: إن الحاكم لا يحكم بعلمه، بدليل الحصر فِي قوله:"إنما أقضي له بما أسمع"، وسيأتي البحث عنه فِي الباب التالي، إن شاء الله تعالى. (ومنها): أن التعمق فِي البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها عَلَى تزيين الباطن فِي صورة الحق، وعكسه مذموم، فإن المراد بقوله:"أبلغ": أي أكثر بلاغةً، ولو كَانَ ذلك فِي التوصل إلى الحق لم يذمّ، وإنما يُذمّ منْ ذلك ما يُتوصل به إلى الباطل فِي صورة الحق، فالبلاغة إذن لا تُذمّ لذاتها، وإنما تذم بحسب التعلق الذي يمدح بسببه، وهي فِي حد ذاتها ممدوحة، وهذا كما يذم صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب، وتحقير غيره، ممن لم يصل إلى درجته، ولاسيما إن كَانَ الغير منْ أهل الصلاح، فإن البلاغة إنما تذم منْ هذه الحيثية، بحسب ما ينشأ عنها منْ الأمور الخارجية عنها, ولا فرق فِي ذلك بين البلاغة، وغيرها، بل كل فتنة توصل إلى المطلوب محمودة فِي حد ذاتها، وَقَدْ تذم، أو تمدح بحسب متعلقها.
[تنبيه]: اختلف فِي تعريف البلاغة، فقيل: أن يبلغ بعبارة لسانه، كنه ما فِي قلبه. وقيل: إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ. وقيل: الإيجاز مع الإفهام، والتصرف منْ غير إضمار. وقيل: قليل لا يبهم، وكثير لا يسأم. وقيل: إجمال اللفظ، واتساع المعنى. وقيل: تقليل اللفظ، وتكثير المعنى. وقيل: حسن الإيجاز مع إصابة المعنى.