(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي حكم الحاكم بعلمه:
قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قد اختُلف فِي هَذَا، فَقَالَ مالك فِي المشهور عنه: إن الحاكم لا يحكم بعلمه فِي شيء، وبه قَالَ أحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، والشعبيّ، وروي عن شُريح.
وذهبت طائفة إلى أنه يقضي فِي كلّ شيء منْ الأموال، والحدود، وغير ذلك مطلقًا، وبه قَالَ أبو ثور، ومن تبعه، وهو أحد قولي الشافعيّ.
وذهبت طوائف إلى التفريق، فقالت طائفة: يقضي بما سمعه فِي مجلس قضائه خاصّة، لا قبله، ولا فِي غيره إذا لم تحضر مجلسه بيّنة، وفي الأموال خاصّة، وبه قَالَ الأوزاعيّ، وجماعة منْ أصحاب مالك، وحكوه عنه. وقالت طائفة: يحكم بما سمعه فِي مجلس قضائه، وفي غيره، لا قبل قضائه، ولا فِي غير مصره، فِي الأموال خاصّة، وبه قَالَ أبو حنيفة. وقالت طائفة: إنه يقضي بعلمه فِي الأموال خاصّة، سواء سمع ذلك فِي مجلس قضائه، وفي غيره، قبل ولايته، أو بعدها، وبه قَالَ أبو يوسف، ومحمد، وهو أحد قولي الشافعيّ. وذهب بعض المالكيّة إلى أنه يقضي بعلمه فِي الأموال، والقذف خاصّة، ولم يشترط مجلس القضاء، واتّفقوا عَلَى أنه يحكم بعلمه فِي الجرح والتعديل؛ لأن ذلك ضروريّ فِي حقّه.
والصحيح الأول؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- فِي حديث هلال بن أميّة -رضي الله عنه- لما لاعن زوجته:"أبصروها، فإن جاءت به -يعني الولد- عَلَى نعت كذا، فهو لهلال، وإن جاءت به عَلَى نعت كذا، فهو لشريك"، فجاءت به عَلَى النعت المكروه، وَقَالَ: لو كنت راجما بغير بيّنة، لرجمت هذه"، فلم يحكم بعلمه؛ لعدم قيام البيّنة، وعند المخالف يجب أن يرجمُها إذا علم ذلك، قاله عبد الوهّاب، فهذا ظاهر قويّ فِي الحدود، وأما فِي غيرها، فيدلّ عليه حديث خزيمة -رضي الله عنه-، حيث اشترى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- منْ أعرابيّ فرسًا، فمشى معه ليعطيه ثمنه، فعرض للأعرابيّ منْ زاده فِي الثمن، فأراد أن يبيعه، فَقَالَ له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قد بعته منّي"، فأنكر الأعرابيّ، وَقَالَ: منْ يشهد لك؟ فاستدعى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- منْ يشهد، فشهد خزيمة (١)، فهذا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يحكم بعلمه، حَتَّى قامت الشهادة، ولا يُنفَصل عن هَذَا بأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك؛ لأن الحقّ كَانَ له، ولا يشهد أحدٌ لنفسه، ولا يحكم لها, ولأنه لا يُعطى أحدٌ بدعواه، ولأنه قد قطع حجة الأعرابيّ لَمّا طلب منه الشهادة؛ لأنا نقول: إنما اعتُبر ذلك كله فِي حقّ غير النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لإمكان ادّعاء الباطل والكذب، وإرادة أخذ مال
(١) حديث صحيح، تقدّم للمصنّف رحمه الله تعالى برقم ٨١/ ٤٦٤٩ وأخرجه أبو داود فِي "سننه" (٣٦٠٧).