الأصل أن يحكم بأي الأمرين شاء، فقدم الأسهل؛ إيثارًا لحسن الجوار، فلما جهل الخصم موضع حقه، رجع عن حكمه الأول، وحكم بالثاني؛ ليكون ذلك أبلغ فِي زجره.
وتعقب بأنه لم يثبت الحكم أولا، كما تقدّم بيانه، قَالَ: وقيل: بل الحكم كَانَ ما أمر به أولا، فلما لم يقبل الخصم ذلك، عاقبه بما حكم عليه به ثانيا، عَلَى ما بدر منه، وكان ذلك لما كانت العقوبة بالأموال. انتهى. وَقَدْ وافق ابنُ الصباغ منْ الشافعيّة عَلَى هَذَا الأخير. قَالَ الحافظ: وفيه نظر، وسياق طرق الْحَدِيث يأبى ذلك كما ترى، لاسيما قوله:"واستوفى للزبير حقه، فِي صريح الحكم"، فمجموع الطرق دالّ عَلَى أنه أمر الزبير أولا أن يترك بعض حقه، وثانيا أن يستوفي جميع حقه. انتهى. "فتح" ٥/ ٣١٣.
وَقَالَ القرطبيّ فِي "المفهم" ٦/ ١٥٤: والمخاصمة إنما كانت في السقي بالماء الذي يسيل فيها، وكان الزبير يتقدّم شَربه عَلَى شرب الأنصاريّ، فكان الزبير يُمسك الماء لحاجته، فطلب الأنصاريّ أن يُسرّحه له قبل استيفاء حاجته، فلما ترافعا إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سلك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- معهما مسلك الصلح، فَقَالَ له:"اسق يا زبير"، (ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ") أي تساهل فِي سقيك، وعجّل فِي إرسال الماء إلى جارك، يحُضّه عَلَى المسامحة والتيسير (فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ) لما سمع بهذا, ولم يرض به, لأنه كَانَ يريد أن لا يُمسك الماء أصلاً، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة، المهلكة الفاقرة (وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك؟) بفتح همزة "أن"، وهي للتعليل، كأنه قَالَ: حكمتَ له بالتقديم؛ لأجل أنه ابن عمتك، وكانت أم الزبير، صفيةُ بنتَ عبد المطلب، وَقَالَ البيضاوي: يحذف حرف الجر منْ "أن" كثيرًا؛ تخفيفا، والتقدير: لأن كَانَ، أو بأن كَانَ، ونحوه:{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}[القلم: ١٤]: أي لا تُطِعْه لأجل ذلك، وحكى القرطبيّ تبعا لعياض أن همزة "أن" ممدودة، قَالَ: لأنه استفهام عَلَى جهة إنكار: أي أتحكم له عليّ لأجل أنه قرابتك؟. قَالَ الحافظ: ولم يقع لنا فِي الرواية مَدّ، لكن يجوز حذف همزة الاستفهام، وحكى الكرماني: "إن كَانَ" بكسر الهمزة عَلَى أنها شرطية، والجواب محذوف، ولا أعرف هذه الرواية, نعم وقع فِي رواية عبد الرحمن بن إسحاق، فَقَالَ: "اعدل يا رسول الله، وان كَانَ ابن عمتك"، والظاهر "إن" هذه بالكسر و"ابن" بالنصب عَلَى الخبرية، ووقع عند البخاريّ، فِي رواية معمر: "إنه ابن عمتك"، قَالَ ابن مالك: يجوز فِي "أنه" بفتح الهمزة وكسرها؛ لأنها وقعت بعد كلام تامّ، معلل بمضمون ما صدر بها، فإذا كسرت قُدّر ما قبلها بالفاء، وإذا فتحت قُدّر ما قبلها باللام، وبعضهم يقدر بعد الكلام المصدر بالمكسورة مثل ما قبلها مقرونا بالفاء، فيقول فِي قوله